كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
- 151 - قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السلام لما رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ تَعَالَى وهو غضبان أسفاً،
والأسف أشد الغضب {قَالَ بئس ما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي} يَقُولُ: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ فِي عِبَادَتِكُمُ الْعِجْلَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبْتُ وَتَرَكْتُكُمْ، وَقَوْلُهُ: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} يَقُولُ: اسْتَعْجَلْتُمْ مَجِيئِي إِلَيْكُمْ وَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: {وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} قِيلَ: كَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ زُمُرُّدٍ، وَقِيلَ: مِنْ ياقوت، وظاهر السياق أنه لما ألقى الأواح غَضَبًا عَلَى قَوْمِهِ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ سلفاً وخلفاً، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} خَوْفًا أَنْ يَكُونَ قَدْ قصَّر فِي نَهْيِهِمْ كَمَا قَالَ في الآية الأخرى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي، إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إسرئيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}، وقال ها هنا: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ لَا تَسُقْنِي مَسَاقَهُمْ وَلَا تخلطني معهم وإنما قال: {ابن أُمَّ} ليكون أرق وَأَنْجَعَ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ شَقِيقُهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَرَاءَةَ سَاحَةِ هارون عليه السلام، عند ذَلِكَ {قَالَ} مُوسَى {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين}، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَيْسَ الْمُعَايِنُ كَالْمُخْبَرِ، أَخْبَرَهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ أَنَّ قَوْمَهُ فُتِنُوا بَعْدَهُ فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح» (أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس مرفوعاً).
- 152 - إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
- 153 - وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

أَمَّا (الْغَضَبُ) الَّذِي نَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ لَهُمْ تَوْبَةً حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بعضاً وَأَمَّا (الذِّلَّةُ) فَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلًّا وَصَغَارًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} نَائِلَةٌ لكل من افترى بدعة، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ ذُلَّ الْبِدْعَةِ عَلَى أَكْتَافِهِمْ، وَإِنْ هَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَغْلَاتُ وَطَقْطَقَتْ بهم البراذين، وعن أبي قلابة أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فقال: هِيَ وَاللَّهِ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ ذَلِيلٌ. ثُمَّ نبَّه تَعَالَى عِبَادَهُ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ حَتَّى وَلَوْ كَانَ مِنْ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ شِقَاقٍ وَلِهَذَا عَقَّبَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ} أَيْ يا محمد يا نبيّ الرحمة {مِن بَعْدِهَا} أَيْ مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِعْلَةِ {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عن ذلك يعني الرَّجُلِ يَزْنِي بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَتَلَاهَا عَبْدُ اللَّهِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يأمرهم بها ولم ينههم عنها (رواه ابن أبي حاتم أيضاً).
عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أنم عيني، وأهدىء ليلي" فقلتها فذهب عني (أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت).
- 24 - وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- 25 - وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ} الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ أَنَّهُ {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} أَيْ تَارَةً تَخَافُونَ مِمَّا يَحْدُثُ بَعْدَهُ مِنْ أمطار مزعجة، وصواعق متلفة، وتارة ترجون وميضه وما يأتي به من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ موتها} أَيْ بَعْدَمَا كَانَتْ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا وَلَا شَيْءَ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْمَاءُ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيج}، وَفِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ وَدَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى الْمَعَادِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، ثم قال تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}، كقوله تَعَالَى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بإذنه}، وقوله: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا اجتهد في اليمين قال: وَالَّذِي تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، أَيْ هِيَ قَائِمَةٌ ثَابِتَةٌ بِأَمْرِهِ لَهَا وَتَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا، ثُمَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُدِّلَتِ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ، وَخَرَجَتِ الْأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهَا أَحْيَاءً، بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} أي من الأرض، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إن لبثتنم إلا قليلا}، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ}.
- 26 - وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ
- 27 - وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

يَقُولُ تعالى: {وَلَهُ مَن في السموات وَالْأَرْضِ} أَيْ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه}، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَيْسَرُ عَلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الْبُدَاءَةِ، وَالْبُدَاءَةُ عَلَيْهِ هينة، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عليَّ مِنْ إِعَادَتِهِ وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ" (أخرجه البخاري وأحمد)، وَقَالَ آخَرُونَ: كِلَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى السواء، وقال الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كلٌّ عَلَيْهِ هيِّن، وقوله: {وَلَهُ المثل الأعلى في السموات

الصفحة 52