كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

والكلدانيين،
ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: هي المسكنة وأخذ الجزية منهم، وعنه: هي الجزية، والذي يسومهم سوء العذاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ جريج والسدي وقتادة). ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصاراً للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى بن
مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ آخِرَ الزَّمَانِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} أَيْ لِمَنْ عَصَاهُ وخالف شَرْعَهُ، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} أَيْ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ وَأَنَابَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ قَرْنِ الرَّحْمَةِ مع العقوبة لئلا يحصل اليأس، فيقرن تعالى بين الترعيب وَالتَّرْهِيبِ كَثِيرًا لِتُبْقَى النُّفُوسُ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ.
- 168 - وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- 169 - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
- 170 - وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ

يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ فَرَّقَهُمْ فِي الْأَرْضِ أمماً أي طوائف وفرقاً، {مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} أَيْ فِيهِمُ الصالح وغير ذلك، كقول الْجِنُّ: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ}، {بَلَوْنَاهُمْ} أَيِ اخْتَبَرْنَاهُمْ {بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} أَيْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، قَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى} الآية، يَقُولُ تَعَالَى: فَخَلَفَ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ الْجِيلِ الَّذِينَ فِيهِمُ الصَّالِحُ وَالطَّالِحُ خَلْفٌ آخَرُ لَا خير فيهم، وقد ورثوا دراسة الْكِتَابِ وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ النَّصَارَى، وَقَدْ يَكُونُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} أَيْ يَعْتَاضُونَ عَنْ بَذْلِ الْحَقِّ وَنَشْرِهِ بِعَرَضِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيُسَوِّفُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيَعِدُونَهَا بِالتَّوْبَةِ، وَكُلَّمَا لَاحَ لَهُمْ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَقَعُوا فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. قال مجاهد: لَا يُشْرُفُ لَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا أَخَذُوهُ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا وَيَتَمَنَّوْنَ الْمَغْفِرَةَ، {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}. وقال السدي: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يَسْتَقْضُونَ قَاضِيًا إِلَّا ارْتَشَى فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّ خِيَارَهُمُ اجْتَمَعُوا فَأَخَذَ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا اسْتَقْضَى ارْتَشَى فَيُقَالُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ تَرْتَشِي فِي الْحُكْمِ؟ فَيَقُولُ: سَيَغْفِرُ لِي، فَتَطْعَنُ عَلَيْهِ الْبَقِيَّةُ الْآخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا صَنَعَ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ نَزَعَ وَجُعِلَ مَكَانَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَطْعَنُ عَلَيْهِ فَيَرْتَشِي، يَقُولُ: وَإِنْ يَأْتِ الْآخَرِينَ عَرْضُ الدُّنْيَا يَأْخُذُوهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إلا الحق} الآية،
لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق بغيره وَيَتَّبِعُوهُ، {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أَيْ لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أَيِ اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ عليهم، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} أَيْ بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فإنه الحق الذي لا مرية فِيهِ، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى: صلى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرِ فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَأَجَابَهُ علي رضي الله عنه وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يوقنون} (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير).

الصفحة 61