كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسَهُمْ} الآية. وقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}، رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أَثَامًا: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ {يَلْقَ أَثَاماً} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة، وَقَالَ قَتادَةُ {يَلْقَ أَثَاماً}: نَكَالًا، كُنَّا نُحَدِّثُ أنه واد في جهنم، وَقَالَ السُّدِّيُّ {يَلْقَ أَثَاماً} جَزَاءً، وَهَذَا أَشْبَهُ بظاهر الآية وبهذا فَسَّرَهُ بِمَا بَعْدَهُ مُبَدَّلًا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يوم القيامة} أي يقرر عَلَيْهِ وَيُغْلَّظُ {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} أَيْ حَقِيرًا ذليلاً، وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} أَيْ جَزَاؤُهُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ مَا ذُكِرَ {إِلاَّ مَن تَابَ} أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى صِحَّةِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ آيَةِ النِّسَاءِ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متعمدا} الآية، فإن هذه وإن كانت مدينة، إِلَّا أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، فَتُحْمَلُ عَلَى مَنْ لَمْ يتب.
وقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً}. فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُدِّلُوا مَكَانَ عمل السيئات بعمل الحسنات، قال ابن عباس: هم المؤمنون كانوا قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عن السيئات فَحَوَّلَهُمْ إِلَى الْحَسَنَاتِ فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين، وَأَبْدَلَهُمْ بِنِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ نِكَاحَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَبْدَلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِخْلَاصًا، وَأَبْدَلَهُمْ بِالْفُجُورِ إحصاناً، وبالكفر إسلاماً، (وَالْقَوْلُ الثَّانِي): أَنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ تَنْقَلِبُ بنفس التوبة النصوح حسنات، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ وَصَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ المروية عن السلف رَّضِيَ الله عَنْهُمْ. فعن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ، يُؤْتَى برجل فيقول: نحوّا عنه كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قَالَ فَيُقَالُ له: عملت يوم كذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَيُقَالُ: فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أراها ههنا" قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه" (أخرجه مسلم في صحيحه). وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ بِأُنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة موقوفاً)، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَالَ: فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات، قال ابن أبي حاتم حَدَّثَنَا أَبُو جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا يُحَدِّثُ قَالَ: جَاءَ شَيْخٌ كَبِيرٌ هَرِمٌ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَجُلٌ غَدَرَ وَفَجَرَ وَلَمْ يَدَعْ حَاجَةً وَلَا داجة إلاّ اقتطفها بِيَمِينِهِ، لَوْ قُسِّمَتْ خَطِيئَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أأسلمت؟» قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريكك لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّهَ غَافِرٌ لَكَ مَا كُنْتَ كَذَلِكَ وَمُبْدِّلٌ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَغَدَرَاتِي وفَجَرَاتِي؟ فَقَالَ: «وغدراتك وفجراتك»، فولى الرجل يكبر ويهلل (رواه ابن أبي حاتم وأخرجه الطبراني بنحوه). ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عُمُومِ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَأَنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ تَابَ عليه من أي ذنب كان جليلاً أوحقيراً كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى: {وَمَن تَابَ
- 90 - سورة البلد
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ
- 2 - وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ
- 3 - وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ
- 4 - لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
- 5 - أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
- 6 - يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا
- 7 - أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ
- 8 - أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
- 9 - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ
- 10 - وَهَدَيْنَاهُ النجدين

هذا قسم من الله تبارك وتعالى بِمَكَّةَ (أُم الْقُرَى) فِي حَالِ كَوْنِ السَّاكِنِ فيها حلالاً، لِيُنَبِّهَ عَلَى عَظَمَةِ قَدْرِهَا فِي حَالِ إِحْرَامِ أهلها، قال مُجَاهِدٍ: {لاَ أُقسم بِهَذَا الْبَلَدِ} لَا، رَدَّ عليهم. أقسم بهذا البلد، وقال ابن عباس: {لاأقسم بِهَذَا الْبَلَدِ} يَعْنِي مَكَّةَ {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} قَالَ: أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَحِلُّ لَكَ أن تقاتل به، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا أَصَبْتَ فِيهِ فَهُوَ حَلَالٌ لك، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَحَلَّهَا اللَّهُ لَهُ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وهذا المعنى قَدْ وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا فليبلغ الشاهد الغائب» (أخرجه الشيخان وأصحاب السنن). وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لكم»، وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال ابن عباس: الْوَالِدُ الَّذِي يَلِدُ {وَمَا وَلَدَ} الْعَاقِرُ الَّذِي لا يولد له، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك: يَعْنِي بِالْوَالِدِ آدَمَ {وَمَا وَلَدَ} وَلَدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَأَصْحَابُهُ حَسَنٌ قَوِيٌّ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقْسَمَ بأُم الْقُرَى وَهِيَ الْمَسَاكِنُ، أَقْسَمَ بَعْدَهُ بِالسَّاكِنِ، وَهُوَ (آدَمُ) أَبُو البشر وولده، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ ولد وولده وهو محتمل أيضاً، وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} رُوِيَ عَنِ ابن مسعود وابن عباس: يعني منتصباً، زاد ابن عباس: منتصباً فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْكَبَدُ: الِاسْتِوَاءُ وَالِاسْتِقَامَةُ، وَمَعْنَى هذا القول: لقد خلقناه سوياً مستقيماً، كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شاء ركبك}، وكقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تقويم} وقال ابن عباس {فِي كَبَدٍ} فِي شِدَّةِ خَلْقٍ،

الصفحة 640