كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
- 32 - فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
- 33 - وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
- 34 - قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
- 35 - يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
- 36 - قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
- 37 - يَأْتُوكَ بِكُلِّ سحار عليم
لما قامت الحجة على فرعون بِالْبَيَانِ وَالْعَقْلِ، عَدَلَ إِلَى أَنْ يَقْهَرَ مُوسَى بيده وسلطانه، فظن أَنَّهُ لَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْمَقَامِ مَقَالٌ فَقَالَ: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ}؟ أَيْ بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ وَاضِحٍ، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ في غاية الجلاء والوضوح، ذَاتُ قَوَائِمَ وَفَمٍ كَبِيرٍ وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، {وَنَزَعَ يَدَهُ} أَيْ مِنْ جَيْبِهِ {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} أَيْ تَتَلَأْلَأُ كَقِطْعَةٍ مِنَ الْقَمَرِ، فبادر فرعون بشقاوته إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ: {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} أي بارع في السحر، فروّج عليهم أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ السِّحْرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَةِ، ثُمَّ هَيَّجَهُمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، فَقَالَ: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} الآية، أَيْ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ بِقُلُوبِ النَّاسِ مَعَهُ بِسَبَبِ هَذَا، فَيُكْثِرَ أَعْوَانَهُ وَأَنْصَارَهُ وَأَتْبَاعَهُ وَيَغْلِبَكُمْ على دولكتم، فَيَأْخُذَ الْبِلَادَ مِنْكُمْ، فَأَشِيرُوا عليَّ فِيهِ مَاذَا أَصْنَعُ بِهِ؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم} أَيْ أَخِّرْهُ وَأَخَاهُ حَتَّى تَجَمَعَ لَهُ مِنْ مَدَائِنِ مَمْلَكَتِكَ، وَأَقَالِيمِ دَوْلَتِكَ كُلَّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يُقَابِلُونَهُ، وَيَأْتُونَ بِنَظِيرِ مَا جَاءَ بِهِ، فَتَغْلِبُهُ أَنْتَ وَتَكُونُ لَكَ النُّصْرَةُ وَالتَّأْيِيدُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وكان هذا من تسخير الله تعالى، ليجتمع الناس في صعيد واحد، وتظهر آيَاتُ اللَّهِ وَحُجَجُهُ وَبَرَاهِينُهُ
عَلَى النَّاسِ فِي النهار جهرة.
- 38 - فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
- 39 - وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ
- 40 - لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ
- 41 - فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ
- 42 - قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين
- 43 - قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
- 44 - فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ
- 45 - فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
- 46 - فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ
- 47 - قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- 48 - رَبِّ موسى وهارون
لَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ وَقَدْ جَمَعُوهُمْ مِنْ أَقَالِيمِ بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ أَسْحَرَ النَّاسِ وأصنعهم، وَكَانَ السَّحَرَةُ جَمْعًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، قِيلَ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ. وَاجْتَهَدَ النَّاسُ فِي الِاجْتِمَاعِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين}، وَلَمْ يَقُولُوا نَتَّبِعُ الْحَقَّ سَوَاءً كَانَ مِنَ السَّحَرَةِ أَوْ مِنْ مُوسَى، بَلِ الرَّعِيَّةُ عَلَى دِينِ مَلِكِهِمْ {فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ} أَيْ إِلَى مجلس فرعون، وقد جمع خدمه وحشمه، وَوُزَرَاءَهُ وَرُؤَسَاءَ دَوْلَتِهِ، وَجُنُودَ مَمْلَكَتِهِ، فَقَامَ السَّحَرَةُ بَيْنَ يَدِي فِرْعَوْنَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ إن غلبوا فَقَالُوا: {أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} أَيْ وَأَخَصُّ مِمَّا
- 92 - سورة الليل
[مقدمة]
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ: «فَهَلَّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى».
بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- 1 - وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى
- 2 - وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى
- 3 - وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
- 4 - إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
- 5 - فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى
- 6 - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
- 7 - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
- 8 - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى
- 9 - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
- 10 - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى
- 11 - وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
أقسم تعالى بالليل {إِذَا يَغْشَى} أَيْ إِذَا غَشِيَ الْخَلِيقَةَ بِظَلَامِهِ، {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أَيْ بِضِيَائِهِ وَإِشْرَاقِهِ، {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً}، {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} أَيْ أَعْمَالُ الْعِبَادِ الَّتِي اكتسبوها متضادة وَمُتَخَالِفَةٌ، فَمِنْ فَاعِلٍ خَيْرًا وَمِنْ فَاعِلٍ شَرًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} أَيْ أَعْطَى مَا أُمِرَ بِإِخْرَاجِهِ، وَاتَّقَى اللَّهَ في أموره، {وَصَدَّقَ بالحسنى} بالمجازاة على ذلك أي بالثواب، وقال ابن عباس، ومجاهد: {صدّق بالحسنى} أي بالخُلْف، وقال الضحّاك: بلا إله إلا الله، وقال أُبيّ بن كعب: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحسنى قال: "الحسنى: الجنة" (أخرجه ابن أبي حاتم). وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِلْخَيْرِ، وقال زيد بن أسلم: يعني للجنة، {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} أَيْ بِمَا عِنْدَهُ {وَاسْتَغْنَى} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بَخِلَ بِمَالِهِ وَاسْتَغْنَى عَنْ ربه عزَّ وجلَّ: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أَيْ بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أَيْ لِطَرِيقِ الشَّرِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يُجَازِي مَنْ قَصَدَ الْخَيْرَ بِالتَّوْفِيقِ لَهُ، وَمَنْ قَصَدَ الشَّرَّ بِالْخِذْلَانِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِقَدَرٍ مُقَدَّرٍ، وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هذا المعنى كثيرة. روى البخاري عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه
الصفحة 646