كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
لَمَّا طَالَ مُقَامُ نَبِيِّ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وَكُلَّمَا كَرَّرَ عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ الْغَلِيظِ وَالِامْتِنَاعِ الشَّدِيدِ، وَقَالُوا فِي الْآخِرِ: {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أي إن لم تنته عن دعوتك إيانا على دينك {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} أَيْ لَنَرْجُمَنَّكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةً اسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ فَقَالَ: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} الآية، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} إلى آخر الآية، وقال ههنا {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين} والمشحون هو الملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فِيهَا مِن كُلِّ زوجين اثنين، أي أنجيا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
- 123 - كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ
- 124 - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ
- 125 - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- 126 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 127 - وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
- 128 - أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
- 129 - وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
- 130 - وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ
- 131 - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
- 132 - وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ
- 133 - أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
- 134 - وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
- 135 - إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (هُودٍ) عَلَيْهِ السلام أنه دعا قومه عاداً، وكان قومه يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ جِبَالُ الرَّمَلِ قَرِيبًا مِنْ حضرموت متاخمة بلاد الْيَمَنِ، وَكَانَ زَمَانُهُمْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بسطة}، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي غَايَةٍ مِنْ قُوَّةِ التركيب والقوة والبطش الشديد، والأموال والجنات والأنهار، وَالْأَبْنَاءِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ غير الله معه، فبعث الله هوداً إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ رَسُولَا وَبَشِيرًا وَنَذِيرًا فَدَعَاهُمْ إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه، فقال لهم {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ}؟ الريع: المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة، يبنون هناك بيناناً محكماً هائلاً باهراً، وَلِهَذَا قَالَ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} أَيْ معلماً بناء مشهوراً، {تَعْبَثُونَ} أي وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَبَثًا لَا لِلِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، بَلْ لِمُجَرَّدِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ، وَلِهَذَا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلزَّمَانِ وَإِتْعَابٌ لِلْأَبْدَانِ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ}. قَالَ مُجَاهِدٌ: والمصانع الْبُرُوجُ الْمُشَيَّدَةُ وَالْبُنْيَانُ الْمُخَلَّدُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: بُرُوجُ الْحَمَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَأْخَذُ الْمَاءِ، {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أَيْ لِكَيْ تُقِيمُوا فِيهَا أَبَدًا، وذلك ليس بِحَاصِلٍ لَكُمْ بَلْ زَائِلٌ عَنْكُمْ، كَمَا زَالَ عمن كان قبلكم، روي أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى مَا أَحْدَثَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْغُوطَةِ مِنَ البنيان ونصب الحجر، قَامَ فِي مَسْجِدِهِمْ فَنَادَى يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحْيُونَ، أَلَا تَسْتَحْيُونَ، تَجْمَعُونَ مَا لَا تَأْكُلُونَ، وَتَبْنُونَ مَا لَا تَسْكُنُونَ، وَتَأْمُلُونَ ما لا تدركون، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون
وقوله تَعَالَى: {فَإِن مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يوجد اليسر،
ثم أكد هذا الخبر، بقوله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}، قال الحسن: كَانُوا يَقُولُونَ: لَا يَغْلِبُ عُسْرٌ وَاحِدٌ يُسْرَيْنِ اثنين، وعن قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَصْحَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فقال: «لن يغلب عسر يسرين» (رواه ابن جرير)، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعُسْرَ مُعَرَّفٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَهُوَ مُفْرَدٌ، وَالْيُسْرُ مُنَكَّرٌ، فَتَعَدَّدَ، وَلِهَذَا قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} فالعسر الاول عين الثاني، واليسر تعدّد، ومما يروى عن الشافعي أَنَّهُ قَالَ:
صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَقْرَبَ الْفَرَجَا * مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ نَجَا
مَنْ صَدَقَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذًى * وَمَنْ رَجَاهُ يكون حيث رجا
وقال الشاعر:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى * ذَرْعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
كَمُلَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلْقَاتُهَا * فرجت وكان يظنها لا تفرج
وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} أَيْ إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أُمور الدُّنْيَا وَأَشْغَالِهَا، وَقَطَعْتَ علائقها فانصب إلى الْعِبَادَةِ، وَقُمْ إِلَيْهَا نَشِيطًا فَارِغَ الْبَالِ، وَأَخْلِصْ لربك النية والرغبة، قَالَ مُجَاهِدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَقُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَانْصَبْ لربك. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فانصب في قيام الليل، وفي رواية عنه {فانصب} بَعْدَ فَرَاغِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَأَنْتَ جَالِسٌ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يَعْنِي فِي الدعاء، وقال الضحّاك {فَإِذَا فَرَغْتَ} أَيْ مِنَ الْجِهَادِ {فَانْصَبْ} أَيْ فِي الْعِبَادَةِ {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قَالَ الثَّوْرِيُّ: اجْعَلْ نِيَّتَكَ وَرَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
الصفحة 653