كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ؟ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}. وَقَوْلُهُ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} الآية.
قال محمد بن إسحاق: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} جَاءَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّا شُعَرَاءُ، فَتَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قَالَ: «أَنْتُمْ» {وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ: «أَنْتُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ رِوَايَةِ ابن إسحاق). وروي أيضاً عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغاوون}، إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَدْ عَلِمَ الله أني منهم، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً} قِيلَ: مَعْنَاهُ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَقِيلَ: فِي شِعْرِهِمْ، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق، وقوله تعالى: {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرُدُّونَ عَلَى الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَهْجُونَ به المؤمنين؛ وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ: «اهْجُهُمْ - أَوْ قَالَ - هَاجِهِمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ». وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قَدْ أنزل في الشعراء ما أنزل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بِسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّ مَا تَرْمُونَهُمْ بِهِ نَضْحُ النَّبْلِ» (أخرجه الإمام أحمد في المسند)، وقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أي مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}، كقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} الآية، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قال قتادة: يعني من الشعراء وغيرهم وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقِيلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ ظَالِمٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ حاتم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَتَبَ أبي في وَصِيَّتَهُ سَطْرَيْنِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا وصى بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الدُّنْيَا حِينَ يُؤْمِنُ الْكَافِرُ، وَيَنْتَهِي الْفَاجِرُ، وَيَصْدُقُ الْكَاذِبُ، إِنِّي اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَإِنْ يَعْدِلْ فَذَاكَ ظَنِّي بِهِ ورجائي فيه، وإن يجر ويبذل فَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ {وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون}.
وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ كُتُبِهِمْ، واختلفوا اختلافاً كبيراً، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرِقٍ: «أَنَّ الْيَهُودَ اخْتَلَفُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإن النصارى اختلفوا على اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَا أنا عليه وأصحابي»، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كَقَوْلِهِ: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فاعبدونِ}، ولهذا قال: {حُنَفَآءَ} أي متحنفين من الشِّرْكِ إِلَى التَّوْحِيدِ، كَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطاغوت}، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ الْحَنِيفِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، {وَيُقِيمُواْ الصَّلَاةَ} وَهِيَ أَشْرَفُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ، {وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ} وَهِيَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أَيْ الْمِلَّةُ الْقَائِمَةُ الْعَادِلَةُ، أَوِ الْأُمَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ المعتدلة.
- 6 - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ
- 7 - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ
- 8 - جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ مَآلِ الْفُجَّارِ مِنْ كَفَرَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، الْمُخَالِفِينَ لَكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَنْبِيَاءِ اللَّهِ الْمُرْسَلَةِ، أَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ {خَالِدِينَ فِيهَا} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهَا وَلَا يَزُولُونَ، {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أَيْ شَرُّ الْخَلِيقَةِ الَّتِي بَرَأَهَا اللَّهُ وَذَرَأَهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حَالِ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِأَبْدَانِهِمْ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البرية}، ثم قال تعالى: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أَيْ بِلَا انْفِصَالٍ وَلَا انْقِضَاءٍ وَلَا فَرَاغٍ {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} وَمَقَامُ رِضَاهُ عَنْهُمْ أَعْلَى مِمَّا أُوتُوهُ مِنَ النَّعِيمِ القيم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فِيمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْفَضْلِ الْعَمِيمِ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أَيْ هَذَا الْجَزَاءُ حَاصِلٌ لِمَنْ خَشِيَ اللَّهَ وَاتَّقَاهُ حَقَّ تَقْوَاهُ، وعبده كأنه يراه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَجُلٌ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّمَا كَانَتْ هَيْعَةٌ اسْتَوَى عَلَيْهِ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَجُلٌ فِي ثُلَّةٍ مِنْ غَنَمِهِ يُقِيمُ الصلاة ويؤتي الزكاة،» ألا أخبركم بخير الْبَرِيَّةِ"؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «الَّذِي يَسْأَلُ بِاللَّهِ ولا يعطي به» (أخرجه الإمام أحمد).

الصفحة 664