كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

على عباده المصطفين الأخيار، وقد روى أبو بكر البزار عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}؟ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى. ثُمَّ شَرَعَ تَعَالَى يُبَيِّنُ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالتَّدْبِيرِ دُونَ غيره، فقال تعالى: {أَمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات} أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وَصَفَائِهَا، وَمَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ، والنجوم الزاهرة، والأفلاك الدائرة، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار، والفيافي والقفار، والزروع والأشجار، والثمار والبحار، وَالْحَيَوَانِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ وَالْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ وَغَيْرِ ذلك، وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ مَآءً} أَيْ جَعَلَهُ رِزْقًا لِلْعِبَادِ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ} أَيْ بَسَاتِينَ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أَيْ مَنْظَرٍ حَسَنٍ وَشَكْلٍ بَهِيٍّ {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أَيْ لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، كَمَا يعترف به المشركون {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} أَيْ هُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ثُمَّ هُمْ يَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ مِمَّا يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ ولا يرزق، ولهذا قال تعالى: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ؟} أَيْ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ يُعْبَدُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ وَلِكُلِّ ذِي لُبٍّ مما يعترفون بِهِ أَيْضًا أَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} فَعَلَ هَذَا؟ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجَوَابِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ ثَمّ أَحَدٌ فَعَلَ هَذَا مَعَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَفَرِّدُ بِهِ فَيُقَالُ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يخلق} الآية، وقوله تعالى ههنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات وَالْأَرْضَ} {أَمَّنْ} فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا تَقْدِيرُهُ أَمَّنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؟ هَذَا مَعْنَى السِّيَاقِ وَإِنْ لم يذكر الآخر، ثم قال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أَيْ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ عدلاً ونظيراً، وهكذا قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة ويرجو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أَيْ أَمَّنْ هُوَ هَكَذَا كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟ ولهذا قال تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إنما يتذكر أولو الألباب}.
- 61 - أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

يقول تعالى: {أم من جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً ثَابِتَةً لَا تَمِيدُ وَلَا تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا وَلَا تَرْجُفُ بِهِمْ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا طَابَ عَلَيْهَا الْعَيْشُ وَالْحَيَاةُ، بَلْ جَعَلَهَا مِنْ فَضْلِهِ ورحمته مهاداً، ثَابِتَةً لَا تَتَزَلْزَلُ وَلَا تَتَحَرَّكُ، كَمَا قَالَ تعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بناء}، {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} أَيْ جَعَلَ فِيهَا الْأَنْهَارَ العذبة الطيبة، شقها فِي خِلَالِهَا وَصَرَّفَهَا فِيهَا مَا بَيْنَ أَنْهَارٍ كِبَارٍ وَصِغَارٍ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَسَيَّرَهَا شَرْقًا وَغَرْبًا وَجَنُوبًا وَشَمَالًا، بِحَسَبِ مَصَالِحِ عِبَادِهِ فِي أَقَالِيمِهِمْ وأقطاهرم، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، وسير لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أَيْ جِبَالًا شَامِخَةً تُرْسِي الْأَرْضَ وَتُثَبِّتُهَا لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} أَيْ جَعَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ وَالْمَالِحَةِ {حَاجِزاً} أَيْ مَانِعًا يَمْنَعُهَا مِنَ الِاخْتِلَاطِ،
فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِي السَّرْحِ مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ المطلب، وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الحِمْيَري إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تصدُّوه عَنِ الْبَيْتِ، فَجَاءَ حُنَاطَةُ فَدُلَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نريد حربه، ومالنا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ، فَذَهَبَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أبرهة أجله - وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً حَسَنَ الْمَنْظَرِ - وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ ما حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي، فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ، قَدْ جِئْتُ لِهَدْمِهِ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ، قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، والتحصن في رؤوس الْجِبَالِ تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ:
اللهم إن المرء يمنع * رحله فامنع رحاك
وانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم آلك
لا يغلبنّ صليبهم * ومحالهم أبداً محالك
ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال. وذكر مقاتل أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ، لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكة، برك الْفِيلُ، وَخَرَجَ (نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ) يَشْتَدُّ حَتَّى صعد فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطِبْرَزِينِ وَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مراقه، فنزعوه بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ،
وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس، لا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا
هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ (نُفَيْلٍ) لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ، وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نُفَيْلٌ يَقُولُ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبْ * وَالْأَشْرَمُ المغلوب ليس الغالب
وذكر الواقدي بإسناده: أنهم لما تعبأوا لدخول الحرم، وهيأوا الْفِيلَ جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَضَ وَصَاحَ، وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ لِيَقْهَرَ الْفِيلَ على دخول الحرم، وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة على حراء ينظرون مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا

الصفحة 677