كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

لم ينفع العلم، وبه قال عطاء وَالسُّدِّيُّ: أَنَّ عِلْمَهُمْ إِنَّمَا يُدْرِكُ وَيَكْمُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، وكان الحسن يَقْرَأُ {بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ}: قَالَ اضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ في الدنيا حين عاينوا الآخرة، وقوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} عَائِدٌ عَلَى الجنس والمراد الكافرون، كما قال تعالى: {بل زعمتم أن لن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي الكافرون منكم، وهكذا قال ههنا: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} أَيْ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهَا وَوُقُوعِهَا، {بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} أَيْ فِي عَمَايَةٍ وَجَهْلٍ كَبِيرٍ فِي أَمْرِهَا وشأنها.
- 67 - وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ
- 68 - لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- 69 - قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين
- 70 - ولا تحزن عليهم وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا إِعَادَةَ الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا عِظَامًا وَرُفَاتًا وَتُرَابًا، ثُمَّ قَالَ: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ} أَيْ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ بِهَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا وَلَا نَرَى لَهُ حَقِيقَةً وَلَا وُقُوعًا، وَقَوْلُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَعْنُونَ مَا هَذَا الْوَعْدُ بِإِعَادَةِ الْأَبْدَانِ {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ أَخَذَهُ قَوْمٌ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ من كتب، يَتَلَقَّاهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ عَمَّا ظَنُّوهُ مِنَ الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْمَعَادِ {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ {سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} أي المكذبين بالرسل وبما جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَغَيْرِهِ، كَيْفَ حلت بهم نقمة اللَّهِ وَعَذَابُهُ وَنَكَالُهُ، وَنَجَّى اللَّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ رُسُلَهُ الْكِرَامَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وصحته، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيِ الْمُكَذِّبِينَ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَلَا تَأْسَفْ عَلَيْهِمْ وَتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ فِي كَيْدِكَ وَرَدِّ مَا جِئْتَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُكَ وَنَاصِرُكَ، وَمُظْهِرٌ دِينَكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَعَانَدَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
- 71 - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
- 72 - قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
- 73 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
- 74 - وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
- 75 - وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٌ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُؤَالِهِمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْتِبْعَادِهِمْ وُقُوعَ ذَلِكَ، {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}؟ قال الله تعالى مُجِيبًا لَهُمْ: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْ يَكُونَ قَرُبَ أَوْ أَنْ يقرب لَكُم بَعْضَ الذي تستعجلون، كقوله تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ؟ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قريبا}، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين}، وَإِنَّمَا دَخَلَتِ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {رَدِفَ لَكُم} لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى عَجِلَ لَكُمْ، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ {عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ
اليتيم} أي هو الذي يقهر اليتيم وَلَا يُطْعِمُهُ وَلَا يُحْسِنُ إِلَيْهِ {وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} كقوله {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين}، ثم قال تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} قال ابن عباس: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَا يصلون في السر، ولهذا قال: {لِّلْمُصَلِّينَ} الذين هُمْ من أهل الصلاة ثُمَّ هُمْ عَنْهَا سَاهُونَ، إِمَّا عَنْ فِعْلِهَا بالكلية، أو يخرجها عن وقتها، وقال عطاء بن دينار: الحمد لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: {عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} وَلَمْ يقل {في صلاتهم ساهون} فيؤخرونها إلى آخر الوقت، أو لا يؤدونها بأركانها وشروطها عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَالتَّدَبُّرِ لِمَعَانِيهَا، فَاللَّفْظُ يَشْمَلُ ذلك كله، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ الله فيها إلا قليلاً» (أخرجه الشيخان). فَهَذَا آخَّرَ صَلَاةَ الْعَصْرِ الَّتِي هِيَ الْوُسْطَى - كَمَا ثَبَتَ بِهِ النَّصُّ - إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، وَهُوَ وَقْتُ كَرَاهَةٍ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَنَقَرَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، لَمْ يَطْمَئِنَّ وَلَا خَشَعَ فِيهَا أَيْضًا، وَلِهَذَا قَالَ: «لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا» وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقِيَامِ إِلَيْهَا مُرَاءَاةَ النَّاسِ، لَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، فهو كما إذا لم يصل بالكلية، قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً}، وقال تعالى ههنا: {الذين هم يراؤون}، وروى الطبراني عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إن في
جهنم لوادياً تستعذ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ، أُعِدَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ لِلْمُرَائِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ: لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِلْمُصَّدِّقِ فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ، وَلِلْحَاجِّ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وللخارج في سبيل الله" (أخرجه الطبراني). وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَذَكَّرُوا الرِّيَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سامع خلقه وحقّره وصغّره» (أخرجه أحمد). ومما يتعلق بقوله تعالى: {الذين هُمْ يراؤون} أَنَّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِلَّهِ فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَا يُعَدُّ رياء، لما رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَصَلِّي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَجُلٌ، فَأَعْجَبَنِي ذَلِكَ فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ العلانية" (أخرجه الحافظ الموصلي). وفي رواية عنه قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ يُسِرُّهُ فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ السِّرِّ وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ" (أخرجه الترمذي والطيالسي وأبو يعلى الموصلي). وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يؤخرون الصلاة عن وقتها» (أخرجه ابن جرير الطبري). قلت: وَتَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا يَحْتَمِلُ تَرْكَهَا بِالْكُلِّيَّةِ، ويحتمل صَلَاتَهَا بَعْدَ وَقْتِهَا شَرْعًا، أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْ أول الوقت.
وقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أَيْ لَا أَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ، وَلَا أَحْسَنُوا إِلَى خَلْقِهِ، حَتَّى وَلَا بِإِعَارَةِ ما ينتفع به مع بقاء عينه ورجوعهم إِلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ أُولَى وأولى. وقد قال مجاهد {الماعون} الزكاة، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنْ صَلَّى رَاءَى، وَإِنْ فَاتَتْهُ لِمَ يَأْسَ عَلَيْهَا، وَيَمْنَعُ زَكَاةَ مَالِهِ، وَفِي لَفْظٍ: صَدَقَةَ مَالِهِ. وَقَالَ

الصفحة 681