كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 182 - وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ
- 183 - وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ

يَقُولُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لا يعلمون} ومعناه أن يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مبلسون}، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَأُمْلِي لَهُمْ} أَيْ وَسَأُمْلِي لهم أي أُطَوِّلُ لَهُمْ مَا هُمْ فِيهِ {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} أي قوي سديد.
- 184 - أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ

يَقُولُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا {مَا بِصَاحِبِهِمْ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِّن جِنَّةٍ} أَيْ لَيْسَ بِهِ جُنُونٌ بَلْ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًا، دَعَا إِلَى حَقٍّ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرٌ لِمَن كَانَ لَهُ لب وقلب يَعْقِلُ بِهِ وَيَعِي بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}، وقال تعالى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديد}، يقول {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ} فِي هَذَا الَّذِي جَاءَكُمْ بِالرِّسَالَةِ من الله أبه حنون أم لا، فإنكم إن فَعَلْتُمْ ذَلِكَ بَانَ لَكُمْ وَظَهَرَ أَنَّهُ رَسُولُ الله حقاً وصدقاً، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا، فَجَعَلَ يُفَخِّذُهُمْ فَخِذًا فَخِذًا، يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ، فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَوَقَائِعَ اللَّهِ، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمَجْنُونٍ، بَاتَ يُصَوِّتُ إِلَى الصَّبَاحِ أَوْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}.
- 185 - أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ

يقول تعالى: أَوَلَمْ ينظر هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِنَا فِي مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ في السموات والأرض، وفيما خلق مِنْ شَيْءٍ فِيهِمَا، فَيَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، فيؤمنوا بالله وَيُصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَيُنِيبُوا إِلَى طَاعَتِهِ، وَيَخْلَعُوا الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ، وَيَحْذَرُوا أَنْ تَكُونَ آجَالُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَتْ فَيَهْلَكُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيَصِيرُوا إِلَى عَذَابِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ: {فَبِأَيِّ -[71]- حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: فَبِأَيِّ تخويفٍ وتحذيرٍ وَتَرْهِيبٍ بَعْدَ تَحْذِيرِ محمد صلى الله عليه وسلم وَتَرْهِيبِهِ الَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُصَدِّقُونَ إِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟
لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أَيْ صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ، شكور في الرخاء، ثم قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أَيْ كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ {دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إياه}، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} الآية، ثم قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ متقصد} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ، كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ ههنا بالجاهد، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يشركون}، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} الآية، فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الإِنكار عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ، وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، فَمَنِ اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والله أعلم، وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار: هو الغدّار، قاله مجاهد والحسن وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، وَالْخَتْرُ أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب:
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ * مَلَأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
وَقَوْلُهُ: {كَفُورٍ} أَيْ جَحُودٌ لِلنِّعَمِ لَا يَشْكُرُهَا بَلْ يَتَنَاسَاهَا وَلَا يَذْكُرُهَا.
- 33 - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، والخشية من الله مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أَيْ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَوْ أراد فداء والده بنفسه لم يقبل مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تعزنكم الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي الشَّيْطَانُ (قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ)، فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ وَيَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ، وليس من ذلك شيء، بل كان كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}، قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ عُزَيْرٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي اشْتَدَّ حُزْنِي وكثر همي وأرق نومي، فتضرعت إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، فَأَنَا فِي ذَلِكَ التضرع أبكي إذ أتاني الملَك، فقلت له: خبرني هل تشفع أرواح الصديقين المظلمة، أَوِ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ؟ قَالَ: إِنِ الْقِيَامَةَ فِيهَا فَصْلُ الْقَضَاءِ، وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ به بِغَيْرِهِ، وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عن إنسان، كل يهمه همه ويبكي ذنبه، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ).
- 34 - إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي

الصفحة 70