كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 186 - مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ

يَقُولُ تَعَالَى مَّنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِيهِ أَحَدٌ، وَلَوْ نَظَرَ لِنَفْسِهِ فِيمَا نَظَرَ فَإِنَّهُ لَا يُجْزَى عَنْهُ شَيْئًا {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شيئا}، وكما قال تعالى: {قُلِ انظروا مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}.
- 187 - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

يَقُولُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} قِيلَ: نَزَلَتْ فِي قُرَيْشٍ، وَقِيلَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِهَا وَتَكْذِيبًا بِوُجُودِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}، وقوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا}. قال ابن عباس: منهاها أَيْ مَتَى مَحَّطُهَا، وَأَيَّانَ آخَرُ مُدَّةِ الدُّنْيَا الَّذِي هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ السَّاعَةِ: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلَّا هُوَ}، أمر تعالى رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ عَنْ وَقْتِ السَّاعَةِ أَنْ يَرُدَّ عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ تعالى، فإنه هو الذي يظهر أمرها، ومتى يكون على التحديد، لا يعلم ذلك إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ: {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض}. قال قتادة: ثقل علمها على أهل السموات والأرض، قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا جَاءَتْ ثَقُلَتْ عَلَى أَهْلِ السموات وَالْأَرْضِ، يَقُولُ كَبُرَتْ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {ثَقُلَتْ فِي السموات وَالْأَرْضِ} قَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا يُصِيبُهُ مِنْ ضَرَرِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَقَالَ ابْنُ جريج: إذا جاء انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ، وَسُيِّرَتِ الجبال، وكان ما قال اللَّهُ عزَّ وجلَّ، فَذَلِكَ ثِقْلُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ رَّحْمَةِ اللَّهُ إِنَّ الْمُرَادَ: ثَقُلَ عِلْمُ وقتها على أهل السموات والأرض كما قال قتادة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً}، وَلَا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السموات والأرض والله أعلم، وقال السدي: خفيت في السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا يَعْلَمُ قِيَامَهَا حِينَ تَقُومُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ السَّاعَةَ تَهِيجُ بِالنَّاسِ، وَالرَّجُلُ يَصْلِحُ حَوْضَهُ وَالرَّجُلُ يَسْقِي مَاشِيَتَهُ، وَالرَّجُلُ يُقِيمُ سِلْعَتَهُ فِي السُّوقِ، ويخفض ميزانه ويرفعه». وقال الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طلعت ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ

هذ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا، فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ}، وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بذلك، ومن يشاء اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا في الأرحام مما يريد أن يخلقه تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أو أُنثى، شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، وكذا لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا،، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وعنده مفاتيح الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إلا هو} الآية، وقد ورد السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب، وروى الإمام أحمد عن أبي بُرَيْدَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "خمسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} "، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مفاتيح الغيب لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبير} (أخرجه البخاري والإمام أحمد).
وعن مجاهد قال: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ مَتَى وُلِدْتُ فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة - إلى قوله - عَلَيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَهِيَ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ التي قال الله تعالى: {وَعِندَهُ مفاتيح الغيب لايعلمها إلا هو} (رواه ابن أبي حاتم وابن جرير)، وروى مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}. وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ أَرْضٍ تَمُوتُ} قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بهن فلن يُطْلِعْ عَلَيْهِنَّ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فِي أي سنة أة فِي أَيِّ شَهْرٍ أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ وَمَا هُوَ، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} أي لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير). وروي مثله عن ابن مسعود، وبمعناه عن أسامة.

الصفحة 71