كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

تَعَالَى أَنَّهَا عَبِيدٌ مِثْلَ عَابِدِيهَا أَيْ مَخْلُوقَاتٌ مثلهم، بل الأناس أَكْمَلُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا تَسْمَعُ وَتُبْصِرُ وَتَبْطِشُ، وَتِلْكَ لا تفعل شيئاً من ذلك.
وقوله تعالى: {قل ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} الآية، أَيِ اسْتَنْصِرُوا بِهَا عليَّ فَلَا تُؤَخِّرُونِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَاجْهَدُوا جُهْدَكُمْ، {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} أَيِ اللَّهُ حسبي وكافيني وَهُوَ نَصِيرِي وَعَلَيْهِ مُتَّكَلِي وَإِلَيْهِ أَلْجَأُ، وَهُوَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ صَالِحٍ بَعْدِي، وَهَذَا كَمَا قَالَ هُودٌ عَلَيْهِ السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صراط مستقيم}، وكقول الخليل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؛ مُؤَكِّدٌ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الخطاب وذاك بِصِيغَةِ الْغَيْبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}، وَقَوْلُهُ: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دعاءكم} الآية، وَقَوْلُهُ: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}، إِنَّمَا قَالَ: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} أَيْ يُقَابِلُونَكَ بِعُيُونٍ مُصَوَّرَةٍ كَأَنَّهَا نَاظِرَةٌ وَهِيَ جَمَادٌ، وَلِهَذَا عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ يَعْقِلُ لِأَنَّهَا عَلَى صُوَرٍ مُصَوَّرَةٍ كالإنسان وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، فَعَبَّرَ عَنْهَا بِضَمِيرِ مَنْ يعقل، وقال السدي: المراد بهذا المشركون، والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير.
- 199 - خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
- 200 - وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قال ابن عباس {خُذِ الْعَفْوَ} يَعْنِي خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَتَوْكَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَخُذْهُ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَةٌ بِفَرَائِضَ الصَّدَقَاتِ وَتَفْصِيلِهَا وَمَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ الصَّدَقَاتُ، وقال الضحاك عن ابن عباس: أنفق الفضل، وقال عبد الرحمن بن أسلم: أَمَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَاخْتَارَ هَذَا القول ابن جرير، وقال غير واحد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: مِنْ أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا أَنَزَلَ {خُذِ الْعَفْوَ} مِنْ أخلاق الناس. وفي رواية عن أبي الزُّبَيْرِ: {خُذِ الْعَفْوَ} قَالَ: مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَاللَّهِ لَآخُذَنَّهُ مِنْهُمْ مَا صَحِبْتُهُمْ، وَهَذَا أَشْهَرُ الأقوال، ويشهد له ما روي عن أبيّ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَى نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟» قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَنْ قطعك (رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ). وَقَالَ الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْتَدَأْتُهُ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبَرْنِي بِفَوَاضِلِ الْأَعْمَالِ، فَقَالَ: «يَا عُقْبَةُ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَأَعْرِضْ عمن ظلمك».
رَبِّ، فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، هذا لك وعشرة أمثاله معه، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، قَالَ رَبِّ فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً، قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ من كتاب الله عزَّ وجلَّ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية (أخرجه مسلم عن المغيرة بن شعبة مرفوعاً ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح).
- 18 - أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ
- 19 - أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
- 20 - وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ
- 21 - وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
- 22 - وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَدْلِهِ وَكَرَمِهِ، أَنَّهُ لَا يُسَاوِي فِي حُكْمِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِآيَاتِهِ مُتْبِعًا لِرُسُلِهِ بِمَنْ كَانَ فَاسِقًا، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل الله، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كالفجار}؟ وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الآية، ولهذا قال تعالى ههنا: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} أَيْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَدْ ذكر عطاء والسدي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي (عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) و (عقبة بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) وَلِهَذَا فَصَّلَ حُكْمَهُمْ فَقَالَ: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيْ صَدَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَعَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا وَهِيَ الصَّالِحَاتُ، {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أَيِ الَّتِي فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَالدُّورُ وَالْغُرَفُ الْعَالِيَةُ {نُزُلاً} أَيْ ضِيَافَةً وَكَرَامَةً، {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ} أَيْ خَرَجُوا عَنِ الطَّاعَةِ، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا}، كَقَوْلِهِ: {كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا} الآية، قال الفضيل ابن عِيَاضٍ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَإِنَّ الْأَرْجُلَ لَمُقَيَّدَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَبَ لَيَرْفَعُهُمْ، وَالْمَلَائِكَةَ تَقْمَعُهُمْ، {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا، وقوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِالْعَذَابِ الْأَدْنَى مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَأَسْقَامَهَا وَآفَاتِهَا، وَمَا يَحِلُّ بِأَهْلِهَا مِمَّا يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه، وقال مجاهد: يعني به عذاب القبر، وقال عبد الله بن مسعود: الْعَذَابُ الْأَدْنَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ يوم بدر، قال السدي: لَمْ يَبْقَ بَيْتٌ بِمَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ الْحُزْنُ عَلَى قَتِيلٍ لَهُمْ أَوْ أَسِيرٍ فَأُصِيبُوا أَوْ غَرِمُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ جُمِعَ لَهُ الْأَمْرَانِ، وَقَوْلُهُ تعالى: {ومن أظلم ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أَيْ لَا أَظْلِمُ مِمَّنْ ذَكَّرَهُ اللَّهُ بِآيَاتِهِ وَبَيَّنَهَا لَهُ وَوَضَّحَهَا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَكَهَا وَجَحَدَهَا، وَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَنَاسَاهَا كَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهَا، قال قتادة: إِيَّاكُمْ وَالْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فَقَدِ اغْتَرَّ أَكْبَرَ الْغِرَّةِ وأعوز أشد العوز، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أَيْ سَأَنْتَقِمُ مِمَّنْ فعل ذلك أشد الانتقام.

الصفحة 76