كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

الآية، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ آدَمُ الْمَخْلُوقُ مِنَ السُّلَالَةِ وَذُرِّيَّتُهُ مَخْلُوقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ،
وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ الْجِنْسُ لَا مُعَيَّنًا، والله أعلم.
- 12 - قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طين

قال بعض النحاة (لا) هنا زائدة، زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: (مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ)، فَأَدْخَلَ (إِنْ) وَهِيَ لِلنَّفْيِ عَلَى (مَا) النَّافِيَةِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وكذا هنا {ما منعك أن لا تَسْجُدَ} مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنْ مِنَ الساجدين}، واختار ابن جرير أن {مَنَعَكَ} مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما ألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا، وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ} مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ (وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ)؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} فشذ من بين الملائكة لترك السجود، فلهذا أبلس مِنَ الرحمة أي أويس مِنَ الرَّحْمَةِ،
فَأَخْطَأَ قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ، وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ، وَلِهَذَا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقت الملائكةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم» (رواه مسلم بهذا اللفظ)، وعن عَائِشَةَ قَالَتْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَلَقَ اللَّهُ الملائكةُ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وصف لكم» (رواه ابن مردويه)، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ: «وَخُلِقَتِ الْحُورُ الْعِينُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ». وَقَالَ الحسن: قاس إبليس وهو أول من قاس، وعن ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. إِسْنَادٌ صحيح أيضاً.
- 13 - قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
- 14 - قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
- 15 - قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِإِبْلِيسَ بأمرٍ قَدَرِيٍّ كَوْنِيٍّ {فَاهْبِطْ مِنْهَا} أَيْ بِسَبَبِ عِصْيَانِكَ لِأَمْرِي وَخُرُوجِكَ عَنْ طَاعَتِي فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا، قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فِي الْمَلَكُوتِ الأعلى {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} أي الذليلن الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده -[9]- ومكافأة لِمُرَادِهِ بِضِدِّهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَدْرَكَ اللَّعِينُ وَسَأَلَ النَّظْرَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} أَجَابَهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ الَّتِي لَا تُخَالَفُ وَلَا تُمَانَعُ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الحساب.
وجعله من المرسلين، وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَيْ حُكْمَ اللَّهِ في أفعاله وعواقبها المحمودة، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}.
- 14 - وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
- 15 - وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
- 16 - قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
- 17 - قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ

لما ذكر تعالى مبدأة أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، قَالَ مُجَاهِدٌ يَعْنِي النُّبُوَّةَ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ وُصُولِهِ إِلَى مَا كان قدره له من النبوة والتكليم في قَضِيَّةَ قَتْلِهِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي كَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ مَدْيَنَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا} قال ابْنِ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقَالَ ابن المنكدر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ (وهو قول سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ)، {فَوَجَدَ فيها رجلان يَقْتَتِلاَنِ} أَيْ يَتَضَارَبَانِ وَيَتَنَازَعَانِ، {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} أي إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} أي قبطي، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام، فوجد مُوسَى فُرْصَةً وَهِيَ غَفْلَةُ النَّاسِ فَعَمَدَ إِلَى الْقِبْطِيِّ {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: فوكزه أَيْ طَعَنَهُ بِجَمْعِ كَفِّهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: وَكَزَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ أَيْ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ فَمَاتَ: {قَالَ} مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أَيْ بِمَا جَعَلْتَ لِي من الجاه والعز والنعمة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً} أَيْ مُعِينًا {لِّلْمُجْرِمِينَ} أَيِ الْكَافِرِينَ بِكَ، الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِكَ.
- 18 - فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ
- 19 - فَلَمَّا إِنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هو عدو لهما قال يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ {فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً} أَيْ مِنْ مَعَرَّةِ مَا فَعَلَ {يَتَرَقَّبُ} أَيْ يَتَلَفَّتُ وَيَتَوَقَّعُ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ، فَمَرَّ فِي بَعْضِ الطرق فإِذا ذلك الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ يُقَاتِلُ آخر، فلما مر عليه مُوسَى اسْتَصْرَخَهُ عَلَى الْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ -[9]- مُّبِينٌ} أَيْ ظَاهِرُ الْغَوَايَةِ كَثِيرُ الشر، ثم عزم موسى عَلَى الْبَطْشِ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، فَاعْتَقَدَ الإِسرائيلي لِخَوَرِهِ وَضَعْفِهِ وَذِلَّتِهِ أَنَّ مُوسَى إِنَّمَا يُرِيدُ قَصْدَهُ لَمَّا سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ {يَا مُوسَى} أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إِلَّا هُوَ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ لَقَفَهَا مِنْ فَمِهِ، ثُمَّ ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده فعلم فرعون بِذَلِكَ، فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ وَعَزَمَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى، فَطَلَبُوهُ فَبَعَثُوا وَرَاءَهُ لِيُحْضِرُوهُ لِذَلِكَ.

الصفحة 8