كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

- 5 - كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ
- 6 - يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ
- 7 - وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ
- 8 - لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون

قال الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي السَّبَبِ الْجَالِبِ لِهَذِهِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فَقَالَ بعضهم: شبه به في الصلاح للمؤمنين، والمعنى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: كَمَا أَنَّكُمْ لَمَّا اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمَغَانِمِ وَتَشَاحَحْتُمْ فِيهَا، فَانْتَزَعَهَا اللَّهُ منكم، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم، فكان عاقبة كراهتكم بأن قدره لكم عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ رَشَدًا وَهُدًى، وَنَصْرًا وَفَتْحًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} عَلَى كُرْهٍ مِنْ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ هُمْ كَارِهُونَ لِلْقِتَالِ، فَهُمْ يجادلونك فيه بعدما تبين لهم، قال مجاهد: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} كذلك يجادلونك في الحق. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ مُجَادَلَةً كَمَا جَادَلُوكَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالُوا: أَخْرَجْتَنَا لِلْعِيرِ وَلَمْ تُعْلِمْنَا قِتَالًا فَنَسْتَعِدُّ لَهُ. قُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ طَالِبًا لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ الَّتِي بَلَغَهُ خَبَرُهَا أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنَ الشَّامِ فِيهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ لِقُرَيْشٍ، فَاسْتَنْهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع الله بين الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، لِمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَصْرِهِمْ على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل، وَالْغَرَضُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ النَّفِيرِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، يَعِدُهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا الْعِيرَ وَإِمَّا النَّفِيرَ، وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْعِيرِ، لِأَنَّهُ كَسْبٌ بِلَا قِتَالٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.
روى ابن أبي حاتم قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فَقَالَ عُمَرُ: مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «كَيْفَ تَرَوْنَ؟» فقال سعد ين مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِيَّانَا تُرِيدُ؟ فَوَالَّذِي أكرمك وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ وَلَا لي بها علم، ولئن سرت حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكِ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولكن اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لكارهون} (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بن أبي وقاص الليثي عن أبيه عن جده) الآيات، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ
عليكم إذا جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بصيراً} (أخرجه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة) ولأبي داود: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى (أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ في سننه)؛ وقوله تعالى: {إِذاً جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ} أَيِ الْأَحْزَابُ {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أَيْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظَنَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّائِرَةَ عَلَى المؤمنين، وقال محمد بن إسحاق: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ وَنَجَمَ النِّفَاقُ، حَتَّى قال (معتب بن قشير): كَانَ مُحَمَّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ إلا الغائط، وقال الحسن في قوله عز وجلَّ: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ يُسْتَأْصَلُونَ، وَأَيْقَنَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولَهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ سَيُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولو كره المشركون، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قَالَ: قُلْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ شَيْءٍ نَقُولُ، فَقَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الحناجر؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ، قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا قَالَ: فَضَرَبَ وُجُوهَ أَعْدَائِهِ بِالرِّيحِ، فَهَزَمَهُمْ بِالرِّيحِ (أخرجه ابن أبي حاتم ورواه الإمام أحمد بمثله).
- 11 - هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً
- 12 - وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا
- 13 - وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ حِينَ نَزَلَتِ الْأَحْزَابُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَحْصُورُونَ
فِي غَايَةِ الْجُهْدِ وَالضِّيقِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ، أَنَّهُمُ ابْتُلُوا وَاخْتُبِرُوا وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً، فحينئذٍ ظَهَرَ النِّفَاقُ وَتَكَلَّمَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ، {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً}، أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ، وَالَّذِي قلبه شبهة تنفس بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَسْوَاسِ فِي نَفْسِهِ، لِضَعْفِ إِيمَانِهِ وَشِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الحال، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} يَعْنِي الْمَدِينَةَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: "أُرِيتُ فِي الْمَنَامِ دَارَ هِجْرَتِكُمْ أَرْضٌ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ فذهب وَهْلي (وَهْلي: أي ظني) أَنَّهَا هَجَرُ فَإِذَا هِيَ يَثْرِبُ" وَفِي لَفْظٍ المدينة، وقوله: {لا مقام لكم} أي ههنا يَعْنُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْمُرَابِطَةِ، {فَارْجِعُوا} أَيْ إِلَى بُيُوتِكُمْ ومنازلكم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، قَالُوا: بُيُوتُنَا نَخَافُ عَلَيْهَا السراق، يَعْنِي اعْتَذَرُوا فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ بِأَنَّهَا عورة، أي ليس دونها ما يحجبها من الْعَدُوِّ، فَهُمْ يَخْشَوْنَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} أَيْ لَيْسَتْ كَمَا يَزْعُمُونَ {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} أَيْ هَرَبًا من الزحف.
- 14 - وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا
- 15 - وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ

الصفحة 86