كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
مَا قَالَ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ أَمَرَ النَّاسَ أن يتهيأوا لِلْقِتَالِ وَأَمَرَهُمْ بِالشَّوْكَةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ}، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ: فِي الْقِتَالِ للقاء المشركين. عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شيء. فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا وَعَدَكَ إِحْدَى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك (أخرجه الإمام أحمد قال ابن كثير: إسناده جيد ولم يخرجه أحد من أهل الكتب الستة). وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أَيْ يُحِبُّونَ أَنَّ الطَّائِفَةَ التي لا منعة ولا قتال تكون لكم وَهِيَ الْعِيرُ، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أَيْ هُوَ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَهَا الشَّوْكَةُ وَالْقِتَالُ لِيُظَفِّرَكُمْ بهم وينصركم عَلَيْهِمْ، وَيُظْهِرَ دِينَهُ، وَيَرْفَعَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، وَيَجْعَلَهُ غَالِبًا عَلَى الْأَدْيَانِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وهو الذي يدبركم بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعِبَادُ يُحِبُّونَ خِلَافَ ذلك فيما يظهر لهم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفِلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ، يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مَنِ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْرِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ (ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ) فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فسيتنفرهم إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ وادياً يقال له ذفران، فخرح مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسرائيل لموسى: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا ههنا قاعدون}، ولكن اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إنا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ - يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ - لَجَالَدْنَا مَعَكَ مَنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا،
وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا، فَإِذَا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخوف أن لا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أجل»، فَقَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يا رسول الله لما أمرك الله، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ، صُدُقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك،
مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مسؤولا
- 16 - قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا
- 17 - قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سوء أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن
دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْمَدِينَةِ وَقُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِهَا، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ وَهِيَ الدُّخُولُ فِي الْكَفْرِ لَكَفَرُوا سَرِيعًا، وَهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَا يَسْتَمْسِكُونَ بِهِ مَعَ أَدْنَى خَوْفٍ وَفَزَعٍ (هَكَذَا فَسَّرَهَا قَتَادَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ)، وَهَذَا ذَمٌّ لَهُمْ فِي غَايَةِ الذَّمِّ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ هَذَا الْخَوْفِ أن لا يُوَلُّوا الْأَدْبَارَ وَلَا يَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ: {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} أي وإن الله سَيَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ ذَلِكَ لَا يُؤَخِّرُ آجَالَهُمْ وَلَا يُطَوِّلُ أَعْمَارَهُمْ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي تَعْجِيلِ أَخْذِهِمْ غِرَّةً، ولهذا قال تعالى: {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ بَعْدَ هربكم وفراركم، ثم قال تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي يمنعكم، {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أَيْ لَيْسَ لَهُمْ وَلَا لِغَيْرِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُجِيرٌ وَلَا مُغِيثٌ.
- 18 - قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً
- 19 - أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُعَوِّقِينَ لِغَيْرِهِمْ من شُهُودِ الْحَرْبِ، وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ أَيْ أَصْحَابِهِمْ وَعُشَرَائِهِمِ وَخُلَطَائِهِمْ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أَيْ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي الظِّلَالِ وَالثِّمَارِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ بُخَلَاءُ بِالْمَوَدَّةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ السُّدِّيُّ {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أَيْ فِي الْغَنَائِمِ، {فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أَيْ مِنْ شَدَّةِ خَوْفِهِ وَجَزَعِهِ، وَهَكَذَا خَوْفُ هَؤُلَاءِ الْجُبَنَاءِ مِنَ الْقِتَالِ {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أَيْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْنُ تَكَلَّمُوا كلاماً فصيحاً عالياً، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة، وهم يكذبون في ذلك، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {سَلَقُوكُمْ} أَيِ اسْتَقْبَلُوكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَّا عِنْدَ الْغَنِيمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ وَأَسْوَأُهُ مُقَاسِمَةً أَعْطُونَا أَعْطُونَا، قَدْ شَهِدْنَا مَعَكُمْ، وَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ فَأَجَبْنُ قَوْمٍ وَأَخْذُلُهُ لِلْحَقِّ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أَيْ لَيْسَ فِيهِمْ خَيْرٌ قَدْ جَمَعُوا الْجُبْنَ وَالْكَذِبَ وَقِلَّةَ الْخَيْرِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ فِي أَمْثَالِهِمُ الشَّاعِرُ:
أَفِي السلم أعيار (الأعيار: جمع عير وهو الحمار) جَفَاءً وَغِلْظَةً * وَفِي الْحَرْبِ أَمْثَالَ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ؟
الصفحة 87