كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ»، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَالَ السدي وقتادة وعبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، اخْتَصَرْنَا أَقْوَالَهُمُ اكْتِفَاءً بِسِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق.
- 9 - إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ
- 10 - وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حكيم

لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وهم ثلثمائة وَنَيِّفٍ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا» قَالَ: فَمَا زَالَ يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّاهُ ثُمَّ التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ من الملائكة مردفين}، فلما كان يومئذ التقوا فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بكر وعمر وعلياً فقال أبو يكر: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ فيكون ما أخذناه منهم قوى لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الخطاب؟» قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بكر،
ولكني أرى أن تمكني مِنْ فُلَانٍ - قَرِيبٍ لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ - أَخِيهِ - فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ، فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ: فغدوت إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلَّذِي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرِضَ عليَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ» الشجرة قريبة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض - إلى قوله - فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طيباً}، فأحل لَهُمُ الْغَنَائِمَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُد مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ عُوقِبُوا بِمَا صَنَعُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَفَرَّ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فأنزل الله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} بأخذكم الفداء (رواه الإمام أحمد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير).
قال الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ} الآية، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبُهُ أَحَبُّ إليَّ
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر، وَفِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ النِّسَاءُ الْحُيَّضُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أَيْ سَهْلًا هيناً عنده.
- 20 - يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً

وَهَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةِ في الجبن والخور والخوف، {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ} بَلْ هُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَإِنَّ لَهُمْ عَوْدَةً إِلَيْهِمْ، {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يسألون عن أبنائكم} أَيْ وَيَوَدُّونَ إِذَا جَاءَتِ الْأَحْزَابُ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ حَاضِرِينَ مَعَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ، بَلْ فِي الْبَادِيَةِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَخْبَارِكُمْ وَمَا كَانَ مِنْ أمرهم مَعَ عَدُوِّكُمْ، {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} أَيْ وَلَوْ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَمَا قَاتَلُوا مَعَكُمْ إِلَّا قَلِيلًا، لِكَثْرَةِ جُبْنِهِمْ وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
- 21 - لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
- 22 - وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا

هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر تبارك وتعالى النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صبره ومصابراته ومرابطته ومجاهدته، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وَتَزَلْزَلُوا وَاضْطَرَبُوا فِي أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمُصَدِّقِينَ بِمَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ، وَجَعْلِهِ العاقبة لهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قَالَ ابن عباس: يعنون قوله تعالى فِي سورة البقرة {مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} أَيْ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ الَّذِي يَعْقُبُهُ النَّصْرُ الْقَرِيبُ، ولهذا قال تعالى: {وَصَدَقَ الله ورسوله}، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} دَلِيلٌ عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَقُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّاسِ وَأَحْوَالِهِمْ، ومعنى قوله جلت عظمته: {وَمَا زَادَهُمْ} أَيْ ذَلِكَ الْحَالُ وَالضِّيقُ وَالشِّدَّةُ {إِلاَّ إِيمَاناً} بِاللَّهِ {وَتَسْلِيماً} أَيِ انْقِيَادًا لِأَوَامِرِهِ وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
- 23 - مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً
- 24 - لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً

لَمَّا ذكر عزَّ وجلَّ عن المنافقين أنهم نقضوا العهد، وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، وَ {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} قَالَ بَعْضُهُمْ: أَجْلَهُ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: عَهْدَهُ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ

الصفحة 88