كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)
مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لا نقول كما قال قوم موسى {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا}، ولكنا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ ومن خلفك، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وجهه وسره، يعني قوله، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ» فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يقول: «سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر». وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أَيْ يردف بعضهم بعضاً، كما قال ابن عباس {مُرْدِفِينَ}: متتابعين، ويحتمل أن الْمُرَادُ {مُرْدِفِينَ} لَكُمْ أَيْ نَجْدَةً لَكُمْ، كَمَا قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مُرْدِفِينَ} يَقُولُ: المدد، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا (وبه قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ الْقَارِئُ وَابْنُ زَيْدٍ). وفي رواية {مُرْدِفِينَ} قال: بعضهم على أثر بعض، وقال ابن جرير: نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهذا يقتضي - أن صَحَّ إِسْنَادُهُ - أَنَّ الْأَلْفَ مُرْدَفَةٌ بِمِثْلِهَا، وَلِهَذَا قرأ بعضهم: {مُرْدِفِينَ} بفتح الدال والله أعلم،
والمشهور ما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وروي عن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الْفَارِسِ يقول: أقدم حيزوم، إذا نظر إلى المشرك فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قد حطم وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سبعين (أخرجه مسلم وابن جرير).
وفي البخاري قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الملائكة، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ لَمَّا شَاوَرَهُ فِي قَتْلِ (حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ) «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غفرت لكم؟»، وقوله تعالى: {وما جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} الْآيَةَ، أَيْ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ بَعْثَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا بُشْرَى {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}، وَإِلَّا فَهُوَ تعالى قادر على نصركم على أعدائكم {وَمَا النصر إِلاَّ من عند الله} أي بدون ذلك، ولهذا قال: {ما النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ ليبلو بعضكم ببعض}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} فَهَذِهِ حِكَمٌ شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْكُفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهَا، وَقَدْ كَانَ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَاقِبُ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ الْمُكَذِّبَةَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْقَوَارِعِ الَّتِي تَعُمُّ تلك الأمم الْمُكَذِّبَةَ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَعَادًا الْأُولَى بِالدَّبُورِ، وَثَمُودَ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْخَسْفِ وَالْقَلْبِ وَحِجَارَةِ السِّجِّيلِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، فلما بعث الله موسى وأهلك عدوه وأنزل عَلَى مُوسَى التَّوْرَاةَ شَرَعَ فِيهَا قِتَالَ الْكُفَّارِ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَآئِرَ}، وقتل المؤمنين للكافرين أَشَدُّ إِهَانَةً لِلْكَافِرِينَ، وَأَشْفَى لِصُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قال تعالى للمؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ، وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ
{وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَ اللَّهِ وَلَا نَقَضُوهُ وَلَا بدلوه. روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية، وروى الإمام أحمد عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ عَمِيَ (أَنَسُ بن النضر) رضي الله عنه، لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرين الله عزَّ وجلَّ مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُُحد، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال له أنس رضي الله عنه: يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ رضي الله عنه، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ ابْنَةُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، قال: فنزلت هذه الآية {مِّنَ المؤمنين رجالاً صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وفي أصحابه رَّضِيَ الله عَنْهُمْ (أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه بنحوه). وعن طلحة رضي الله عنه قال: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحد صَعِدَ الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَعَزَّى الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَابَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ وَالذُّخْرِ، ثُمَّ قرأ هذه الآية: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عليه فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} الآية كلها، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فأقبلتُ وعليَّ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ حَضْرَمِيَّانِ فَقَالَ: «أَيُّهَا السَّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ» (أخرجه ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ موسى بن طلحة).
قال مجاهد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} يعني عهده {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء، وَقَالَ الْحَسَنُ: {فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ} يَعْنِي مَوْتَهُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الْمَوْتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يبدل تبديلاً، وقال بعضهم: نحبه نذره، وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} أَيْ وَمَا غَيَّرُوا عَهْدَهُمْ وَبَدَّلُوا الْوَفَاءَ بِالْغَدْرِ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا نَقَضُوهُ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ الذين {عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ}، وقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَيْ إِنَّمَا يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِالْخَوْفِ وَالزِّلْزَالِ، لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَظْهَرُ أَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ وَأَمْرُ هَذَا بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ، وَلَكِنْ لَا يُعَذِّبُ الْخَلْقَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ، حَتَّى يعملوا بما يعمله منهم، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركم}، فَهَذَا عِلْمٌ بِالشَّيْءِ بَعْدَ كَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ السَّابِقُ حَاصِلًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَذَا قال الله تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطيب}، ولهذا قال تعالى ههنا: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أَيْ بِصَبْرِهِمْ عَلَى مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَقِيَامِهِمْ بِهِ وَمُحَافَظَتِهِمْ عَلَيْهِ {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} وَهُمُ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِ اللَّهِ المخالفون لأوامره، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بِخَلْقِهِ هِيَ الْغَالِبَةُ لِغَضَبِهِ قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}.
الصفحة 89