كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 2)

أحمد أيضاً عن عامر رضي الله عنه قال: سمعت النعمان بن بشير يَخْطُبُ يَقُولُ - وَأَوْمَأَ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ - يَقُولُ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا والمدهن فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا وَأَوْعَرَهَا وَشَرَّهَا، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوُا الْمَاءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذُوهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً. (أخرجه البخاري والترمذي أيضاً). (حديث آخر): عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ» فَقُلْتُ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا فِيهِمْ أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟ قَالَ: «بَلَى» قَالَتْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ؟ قَالَ: «يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسُ ثُمَّ يَصِيرُونَ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن الله ورضوان» (رواه الإمام أحمد). وفي رواية: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي وَفِيهِمْ رَجُلٌ أعز منهم ولا أمنع لا يغيّره،
إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ أَوْ أَصَابَهُمُ الْعِقَابُ». وفي أخرى عن عائشة ترفعه: «إِذَا ظَهَرَ السُّوءُ فِي الْأَرْضِ أَنْزَلَ اللَّهُ بأهل الأرض بأسه» فقلت: وَفِيهِمْ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ ثُمَّ يصيرون إلى رحمة الله» (أخرجهما الإمام أحمد).
- 26 - وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

يُنَبِّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، حَيْثُ كَانُوا قَلِيلِينَ فَكَثَّرَهُمْ، وَمُسْتَضْعَفِينَ خَائِفِينَ فَقَوَّاهُمْ ونصرهم، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات، وَهَذَا كَانَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ حَالَ مُقَامِهِمْ بِمَكَّةَ، قليلين مستخفين مضطهدين، يَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ الله، لِقِلَّتِهِمْ وَعَدَمِ قُوَّتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى المدينة فآواهم إليها، وقيض لهم أهلها آوو ونصروا وواسوا بِأَمْوَالِهِمْ، وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، قال قتادة: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا، وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وأبينه ضلالاً، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانُوا أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَهُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رأيتم، فاشكروا الله على نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ، وَأَهْلُ الشكر في مزيد من الله.
- 27 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- 28 - وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

أُنْزِلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
- 36 - وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مبينا

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (زينب بنت جحش) لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فَاسْتَنْكَفَتْ مِنْهُ، وَقَالَتْ: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ حَسَبًا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةَ كُلَّهَا (وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل أنها نزلت في (زينب بنت جحش) حِينَ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لمولاه زيد بن حارثة)، وقال عبد الرحمن بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي (أُمِّ كُلْثُومِ) بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رضي الله عنها، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنَ النِّسَاءِ يَعْنِي بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ قَبِلْتُ، فَزَوَّجَهَا زيد بن حارثة رضي الله عنه يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - بَعْدَ فِرَاقِهِ زَيْنَبَ، فَسَخِطَتْ هِيَ وَأَخُوهَا، وَقَالَا: إِنَّمَا أَرَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَوَّجَنَا عَبْدَهُ، قَالَ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} إِلَى آخِرِ الآية، وروى الإمام أحمد عن أنَس رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى (جُلَيْبِيبٍ) امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا فقال: حتى أستأمر أمها، فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم إِذًا» قَالَ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَذَكَرَ لها، فقالت: لاها الله إذن مَا وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، قَالَ: وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْمَعُ، قَالَ فانطلق الرجل يريد أن يخبر رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ، إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالَا: صَدَقْتِ، فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ رضيته فقد رضيناه، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ»، قَالَ: فَزَوَّجَهَا، ثُمَّ فَزِعَ أهل المدينة فركب جليبيب فوجوده قَدْ قُتِلَ، وَحَوْلُهُ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قتلهم، قال أنس رضي الله عنه: فَلَقَدْ رَأَيْتُهَا وَإِنَّهَا لَمِنْ أَنْفَقِ بَيْتٍ بِالْمَدِينَةِ (أخرجه أفمام أحمد عن أنس رضي الله عنه). وَذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الِاسْتِيعَابِ) أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا قَالَتْ فِي خِدْرِهَا: أَتَرُدُّونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أمره؟ نزلت هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عن طاووس قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَنَهَاهُ وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِشَيْءٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ وَلَا اختيار لأحد ههنا ولا رأي ولا قول، كما قال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ»، وَلِهَذَا شَدَّدَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً}، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليم}.
- 37 - وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

الصفحة 97