كتاب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (اسم الجزء: 2)
وَكَانَ الْكَمَال يُنَوّه بنجابته وَقُوَّة ذكائه وحافظته وَرُبمَا سبق بالدرس يَقُول نعيد للشَّيْخ الصَّغِير ولحظه كثيرا وتدرب بوالده فِي قِرَاءَة الجوق وَمَعْرِفَة الْأَنْغَام بِحَيْثُ كَانَ يقْصد لسَمَاع قِرَاءَته فِي حَال صغره من الْأَمَاكِن النائية وَكَذَا تدرب فِي الْخط الْمَنْسُوب بالزين عبد الرَّحْمَن بن الصايغ وتنزل فِي صوفية السعيدية والبيبرسية وَكَانَ أحد قراء الصّفة بهما، وَلم يزل مُتَقَدما فِي الذكاء وَسُرْعَة الْحِفْظ إِلَى أَن تعاطى حب البلاذر وَأكْثر مِنْهُ بِحَيْثُ كَانَت سَلَامَته على غير الْقيَاس قَالَ وَمن ثمَّ صرت لَا أحفظ إِلَّا بتكلف زَائِد وأعقبني ذَلِك فِي السّنة الْمُسْتَقْبلَة حرارة خرج فِي بدني مِنْهَا أَزِيد من مائَة دمل واحمرت واستمرت الدماميل تعتريني كل قَلِيل بل انْقَطَعت عَن الْقِرَاءَة بِسَبَب تعاطيه مُدَّة ن وَأَقْبل على فن الْأَدَب وهجر مَا عداهُ حَتَّى غلب عَلَيْهِ وفَاق فِيهِ وطارح الأدباء وَكَانَ مِمَّن طارحه شَيخنَا بل كَانَ كثير الْميل إِلَيْهِ وَوَصفه بالشيخ الْفَاضِل الْعَلامَة فَخر المدرسين عُمْدَة البلغاء، وناهيك بِهَذَا من مثله جلالة وَقد كتب بِخَطِّهِ الْكثير لنَفسِهِ وَغَيره وَبَلغت تَذكرته أَزِيد من خمسين مجلدة واخصتر شرح المقامات للشريشي بل عمل لَهَا شرحا وَله كتاب فِي الألغاز وَآخر فِي الحماقة رتبه على حُرُوف المعجم وَآخر فِي النّيل وَآخر فِيمَا وَقع فِي الْقُرْآن على أوزان البحور وَقرأَهَا عَلَيْهِ الشهَاب بن عرب شاه وَكتب لَهُ أبياتا يلْتَمس مِنْهُ الْإِجَازَة فِيهَا وَأَشْيَاء كَثِيرَة وَخمْس الْبردَة وَجمع شعره ونثره فِي دوان استدرك عَلَيْهِ بعض طلبته مَا تجدّد لَهُ أَو فَاتَهُ مِنْهُمَا مُرَتبا لذَلِك على الْحُرُوف كَأَصْلِهِ وَهُوَ قل من كثر ومدح الأكابر وطار صيته فِي فن الْأَدَب وَتخرج بِهِ جمَاعَة وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ المقامات الْبَدْر بن المخلطة، وَحدث بالبخاري وَغَيره مرَارًا أَخذ عَنهُ الْفُضَلَاء حملت عَنهُ أَشْيَاء وكتبت عَنهُ من نظمه جملَة وقرض لي عدَّة من تصانيفي بل أَكثر من حُضُور الْإِمْلَاء عِنْدِي)
وَهُوَ أحد من حضر إملائي وإملاء شَيْخي ورفيقي وشيخهما الْعِرَاقِيّ، وَحج وَدخل دمياط والاسكندرية وَغَيرهمَا وَكَانَ خيرا مديما للتلاوة وَالْكِتَابَة والانجماع على نَفسه خُصُوصا بِأخرَة حسن المجالسة وَالْعشرَة طارحا للتكلف كثير التودد لأَصْحَابه وَالذكر لمحاسنهم والأسف على من يفقده مِنْهُم سريع الدمعة ظريف النادرة حُلْو الْكَلَام سريع الْجَواب كثير المحاسن مَشْهُورا بخفة الرّوح بديع النّظم والنثر، وترجمته عِنْدِي فِي المعجم والوفيات أبسط مِمَّا هُنَا. مَاتَ فِي رَمَضَان سنة خمس وَسبعين وَدفن بتربة تجاه الناصرية فرج بن برقوق وَكثر التأسف على فَقده رَحمَه الله وإيانا. وَمن نظمه:
(قَالُوا إِذا لم يخلف ميت ذكرا ... ينسى فَقلت لَهُم فِي بعض أشعاري)
(بعد الْمَمَات أصيحابي ستذكرني ... بِمَا أخلف من أَوْلَاد أفكاري)
الصفحة 148