كتاب قادة فتح الأندلس (اسم الجزء: 2)

وضعوا أسس الصناعة الإسبانية، وكانوا أساتذة الصناعات الدقيقة، وكانت صناعاتهم، ولاسيما المنسوجات القطنية والحريرية، والفخار والخزف والجلود، نماذج بارعة تحذو حذوها الصناعة الأوروبية، فلم يك ثمة أشهر من خزف مالقة، ولا أقمشة مرسية، ولا حرير ألمرية وغرناطة، ولا أسلحة طليطلة، ولا منتجات قرطبة الجلدية، وكانت بلنسية التي تضم كتلة كبيرة من المدجنين، تعتبر من أغنى ثغور أوروبا بما تنتجه من السكر والنبيذ وغيرها من المنتجات العديدة. وكان المدجنون مثال النشاط والدأب، يزاولون التجارة بنجاح وشرف، وكانوا أفضل التجار وأوفرهم أمانة ونزاهة. ولم يكن بينهم متسولون، إذ كانوا يعولون فقراءهم، وكانوا مثلاً للنظام والسكينة، يحسمون منازعاتهم بأنفسهم، وعلى الجملة، فقد كانوا يؤلِّفون أصلح السكان الذين يمكن أن تحتويهم أي البلاد (1).
وقد لبث ملوك قشتالة عصوراً يحرصون على الانتفاع بنشاط المدجنين وحمايتهم، ونستطيع أن نقول على ضوء الوثائق التي سبقت الإشارة إليها، إنه كانت ثمة طوائف كبيرة منهم حتى القرن الخامس عشر الميلادي، تعيش في أنحاء كثيرة من إسبانيا النصرانية محتفظة بدينها ولغتها وتقاليدها، وكانت البابوية تسير على خطتها من التحريض عليهم والمطالبة بتجريدهم من دينهم، والعمل على تنصيرهم بطريق الاضطهاد والعنف، وتردّد الكنيسة الإسبانية من جانبها هذا التحريض. ولكن هذه السياسة الباغية لم تحدث أثرها إلاّ ببطء، ولم يتسع نطاقها إلاّ في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي عندما أشرفت الدولة الإسلامية في غرناطة على نهايتها. وكان قيام مملكة غرناطة في ذاته، عنصراً من عناصر تكييف السياسة الإسبانية إزاء المدجنين، ذلك أن ملوك إسبانيا فوق ما كان يحدوهم من رغبة في المحافظة على مصالحهم وسكينة بلادهم بإيثار الرفق في معاملة المدجين، كانوا أيضاً يخشون سياسة الانتقام
_______
(1) Dr Lea: History of the Inquisition in Spain , v.pp. 66-67 - Dr Lea: The Moriscos of Spain. P.57

الصفحة 119