كتاب قادة فتح الأندلس (اسم الجزء: 2)

عليها، بحاجة إلى قيادة شجاعة مقدامة، لا تخشى أهوال تلك الحروب، ولا تجهل مشاقّها ومعضلاتها، وتُعد العُدّة لمجابهة المشقات وحل المعضلات.
ومن الصعب على قائد عام، كموسى بن نصير، أن يولِّي ابنه البكر عبد الله، قيادة بحرية، دون أن يكون واثقاً من قابليات ولده وكفاياته واقتداره، وأنه سيكون عند حسن ظنّه به قائداً منتصراً، وعند حسن ظن المسلمين به قائداً لا يغرِّر بأصحابه، ولا يقودهم إلى المهالك، بل يحرص على أرواحهم حرصه على روحه، ويقودهم إلى النصر. وإلاّ، فما من والد، يمكن أن يغرِّر بابنه، ويغرِّر بالمسلمين، ويعرِّضه ويعرِّضهم لخطر داهم، إلاّ إذا كان واثقاً كل الثقة بابنه، لأن الحرب، وبخاصة البحرية منها، ليست نزهة من النزهات.
وما قصّر موسى بن نصير في تأديب ابنه عبد الله وسائر أولاده وتعليمهم وتدريبهم، ثم بدأ بتزويد عبد الله بالتجربة العملية على القيادة والإدارة، منذ حلّ في إفريقية والياً عليها. ولكن التجارب العملية على القيادة، لا يمكن أن تأتي ثمارها ما لم يكن المجرِّب متّسماً بالمزايا القيادية المعروفة، والتجربة العملية لها دور في صقل تلك المواهب والمزايا وترسيخها وتنميتها. أما إذا كان المرء محروماً من المزايا القيادية، فلن تجديه التجارب العملية في ميادين القتال شيئاً، فكأنّه يضرب على حديد بارد، أو يغرس الزهر في صحراء.
فما هي سمات عبد الله القيادية، التي صقلها ورسّخها ونمّاها بتجاربه العملية الميدانية برّاً أو بحراً؟
لقد كان ذكيّاً فطناً، لذلك كانت قراراته صحيحة وسريعة، وكان شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت، يتحمّل المسئولية كاملة ولا يلقيها على عواتق الآخرين تهرّباً منها، يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة فلا يحيد عن قراره إذا اقتنع بسلامته ولا يتخلى عنه، له نفسية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار واليُسر والعُسر، يسبق النظر، ويتوقع ما يمكن أن يقع، ويُعدّ لكل ما يُحتمل وقوعه الحلول المناسبة مبكّراً، يعرف نفسيات رجاله وقابلياتهم ويضع الرجل المناسب في الواجب المناسب، يثق برجاله ويثقون به، ويحبهم ويحبونه،

الصفحة 84