كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 2)

ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأينا هذه الأشياء التي قد اختلف في أكلها أنه ينقض الوضوء أم لا إذا مستها النار، فقد أجمع كلٌ أن أكلها قبل مُمَاسَّةِ النار إياها لا يَنقُض الوضوءَ، فأردنا أن نَنظُرَ، هل للنار حكمٌ يجب في الأشياء إذا ماستها فَيُنُقَل به حكمُها إليها؟ فرأينا الماء القَراح تُؤدَّى به الفروض، ثم رأيناه إذا سُخِّنَ فصار مما قد مَسّته النار أن حكمه في طهارته على ما كان عليه قبل مماسة النار إياه، وأنَّ النار لَمْ تُحْدِثُ فيه حكمًا يَنتقلُ به حكمُه إلى غير ما كان عليه في البدْء، فلما كان ما وصَفْنا كذلك كان في النظر أن الطعام الطاهرَ الذي لا يكون أكله قبل أن تمسه النار حدثا؛ إذا مسَّته النارُ لا تَنقله عن حاله فلا يُغيَّر حكمَه، ويكون حكمه بعد مَسِيس النار إياه كحكمه قبل ذلك، قياسا ونظرا على ما بَيّنا، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله.
ش: بَنَى هذا القياس على مقدمتين مُسلمتين:
الأولى: أن كل الطعام قبل مماسة النار إياه لا ينقض الوضوء بلا خلاف.
والثانية: أن الماء القراح الطاهر إذا سخن بالنار لا تُحدث فيه النار شيئا، ولا تُغير حكمه عما كان عليه، فالنظر عليه كون الطعام كذلك بعد مماسة النار إياه، أنها لم تُحدث فيه شيئًا ولم تغير حكمه عما كان عليه.
فإن قلت: كيف تقول إن النار لم تحدث فيه شيئًا، فإنه قبل مماسة النار إياه يُسمّى: نيّا، وبعدها يسمى نضيجا، أليس هذا إحداث؟
قلت: هذا الإحداث لا يضرنا شيئا؛ لأن المراد إحداث أمر شرعيّ متعلق به الحكم، وهذا ليس بأمر شرعي؛ لأن الطعام يباح كله قبل مسّ النار وبعده، وإنما يمنع أكل بعض الطعام قبل مسّ النار من جهة الطب لا من جهة الشرع، والنار لا تحل شيئًا ولا تحرّمه، وإنما تأتي بلذة المطعوم وتزيده طيبا، ألا ترى إلى قول ابن عباس - رضي الله عنه -: "إنما النار بركة الله، وما تُحِلّ من شيء ولا تحرّمه، ولا وضوء مما مسّته النارُ، ولا وضوء مما دخل، إنما الوضوء مما خرج من الإنسان".

الصفحة 55