كتاب نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار (اسم الجزء: 2)

أن حديث القهقهة أخرجه الدارقطني (¬1): عن أبي العالية الرياحي: "أن أعمى تردّى في بئر، والنبي - عليه السلام - يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي - عليه السلام - فأمر النبي - عليه السلام - من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة جميعًا".
فإن قيل: هذا الحديث مرسل أرسله أبو العالية الرياحي، وقد قيل: إنه كان لا يبالي من أين كان يأخذ الحديث. وقال ابن عدي: إنما قيل في أبي العالية ما قيل لهذا الحديث، وإلَّا فسائر أحاديثه صالحة.
قيل له: روى البيهقي (¬2): عن ابن شهاب: "أن النبي - عليه السلام - أمر رجلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة" قال الشافعي: لم نقبله لأنه مرسل.
فلم يذكر فيه علة سوى الإرسال، فدل على صحة إرساله، وأما أبو العالية فهو عدل ثقة، وقد اتفق على إرسال هذا الحديث معمر وأبو عوانة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بَشير، فرووه عن قتادة، عن أبي العالية، وتابعهم عليه ابن أبي الزيال وهؤلاء جميعهم ثقات، فإن صح عن أبي العالية أنه كان لا يبالي من أين أخذ الحديث، قلنا: لكنه إذا أرسل الحديث لا يُرسله إلَّا عمن يقبل روايته؛ لأن المقصود من رواية الحديث ليس إلَّا التبليغ عن رسول الله - عليه السلام - وخاصة إذا تضمن حكمًا شرعيّا، فإذا أرسل الحديث ولم يذكر من أرسله عنه مع علمه أو ظنه بعدم عدالته كان غاشّا، للمسلمين وتاركا لِنصيحتهم، فتسقط عدالته، ويدخل في قوله: - عليه السلام -: "مَن غش فليس منا" (¬3) وقد ثبتت عدالته ورواه الثقات عنه مرسلا؛ فدل على أنه أرسله عن عدل، ولأن المُرسِلُ شاهد على الرسول - عليه السلام - بإضافة الخبر إليه، فلو لم يكن ثابتا عنه بطريق تقارب العلم لما أرسله، ولكان أَسْنَدَهُ لتكون العهدة على غيره، وهذه عادة غير مدفوعة؛ أن من قوي ظنه بوجود شيء أعرض عن إسناده، فهذه مسألة تفرد بها أصحابنا اتباعا لهذا الحديث، وتركوا القياس من أجله، وهذه شهادة ظاهرة لهم أنهم يقدمون الحديث على القياس، وهم أتبع للحديث من سائر
¬__________
(¬1) "سنن الدارقطني" (1/ 163 رقم 5).
(¬2) "سنن البيهقي الكبرى" (1/ 146 رقم 663).
(¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1/ 99 رقم 102) من حديث أبي هريرة.

الصفحة 63