كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد (اسم الجزء: 2)
على قدْرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدرِ الكرام المكارمُ
وتعظم في عَين الصغيرِ صغارها ... وتصغرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
وقد يتعرضون للأذى والامتهان، ولكن تبقى نفوسهم قوية شامخة:
وإذا كانت النفوسُ كِبارًا ... تعبتْ في مُرادِها الأجسامُ
ولنتأمل عبارة قالها عبدُ اللَّه بن أحمد بن حنبل لأبيه: "يا أبتِ لا نقدرُ على ما تقدِرُ عليه"!
والقائل له من المكانة والجهد والفضائل الكثير، لكنه يستعطِف أباه بأنه لا يمكنه العيش بطريقة الإمام، فلا يستطيع ذلك إلا العظماء، الذين يدفعون الثمن من الجهدِ والعرقِ والدَّمِ، مع صبرٍ وإرادةٍ قوية، وعزيمةٍ لا تفتر، ولا يهدّها طول البلاء وعِظم الشقاء! !
قيل لبِشْر بن الحارث حين ضُرِب أَحمد بن حنبل: يا أبا نصر، لو أنك خرجتَ فقلتَ: إني على قول أَحمد بن حنبل. فقال بِشر: أتريدونَ أنْ أقومَ مقامَ الأنبياء! إنَّ أَحمد بن حنبل قامَ مقامَ الأنبياء.
نعم، إنه مقامُ الأنبياء، فالسيرة تعرض ما لقيه النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أذى قريش، وتآمرهم على قتله، والكيد لجماعة المسلمين، وتآمر اليهود والمنافقين، لقي التعبَ والجوعَ، وشُجَّ وجهُه، وكُسرت رُباعيتُه، واجتمعتْ عليه الأحزابُ ليستأصلوا بيضةَ المسلمين، فكان -صلى اللَّه عليه وسلم- القدوةَ والمثلَ الأعلى في الصبرِ والثبات، مع رجاحةِ العقلِ والرأْي، وورث العلماء الربانيون هذه الأخلاق الفاضلة، فقد قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وفي الخبر: "إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورَّثوا علمًا". [رواه الترمذي (2682)، وابن حبان (88)].
إنَّ أتباعَ هذا الدين يحتاجون إلى مجددين ألقَوا الدُّنيا وراءَ ظهورهم، وأقدموا على إعلاء كلمة اللَّه، متحملين المشاق والعناء، لا يخافون في اللَّه
الصفحة 6
534