كتاب جمع الوسائل في شرح الشمائل (اسم الجزء: 2)

(دَائِمَ الْفِكْرِة) وَلَا شَكَّ أَنَّ تَوَاصُلَ أَحْزَانِهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَزِيدِ تَفَكُّرِهِ، وَاسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكِبْرِيَائِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي دَوَامَ الصَّمْتِ، وَعَدَمَ الرَّاحَةِ إِذْ مِنْ لَازِمِ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ انْتِفَاؤُهَا فَقَوْلُهُ (لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ) مِنْ لَوَازِمِ مَا قَبْلَهُ صَرَّحَ بِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَتَنْبِيهًا لِمَا قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَرِيحُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْخَيْرَاتِ قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَيْ لَا يَسْتَرِيحُ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا كَأَهْلِهَا قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَرِحْنَا يَا بِلَالُ.
وَخَبَرُ: قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ.
هَذَا وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً (طَوِيلَ السَّكْتِ) خَبَرٌ آخَرُ لِكَانَ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَصَحَّ حَدِيثُ.
مَنْ صَمَتَ نَجَا.
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَدِيثُ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ; فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ.
رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ وَرُوِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ لَيْتَنِي كَنْتُ أَخْرَسًا إِلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ (لَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ ; فَيَتَحَرَّزُ عَنِ الْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ.
رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يَعْنِي، وَفِي شَأْنِهِ نَزَلَ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ) مِنَ الِافْتِتَاحِ أَيْ: وَيَبْدَؤُهُ (وَيَخْتِمُهُ) بِكَسْرِ التَّاءِ مِنَ الْخَتْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ، وَيَخْتَتِمُهُ مِنَ الِاخْتِتَامِ أَيْ: وَيُتِمُّهُ (بِاسْمِ اللَّهِ) مُرْتَبِطٌ بِالْفِعْلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَازُعِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَحْفُوظًا بِذِكْرِ اللَّهِ، وَمُسْتَعَانًا بِاللَّهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ بِذِكْرِ الْوَقْتَيْنِ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ وَفِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا إِذًا مَا أَظُنُّ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْ صَدْرِهِ الشَّرِيفِ كَلِمَةٌ، وَلَا حَرْفٌ إِلَّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ اللَّهِ الْمَنِيفِ لِأَنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ يَقُولُ:
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ ... عَلَى خَاطِرِي سَهْوًا حَكَمْتُ بِرِدَّتِي
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا لَكِنْ لَيْسَ الذِّكْرُ مُنْحَصِرًا فِي التَّسْبِيحِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ كُلُّ مُطِيعٍ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ ; فَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَأَبْعَدَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ، وَاخْتِتَامِهِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي جَزْمِهِ ; بِأَنَّ الْمُرَادَ بِاسْمِ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِ الْبَسْمَلَةُ غَالِبًا لِنَدْبِهَا فِي كُلِّ ذِي بَالٍ غَيْرِ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ
بِغَيْرِهِ كَالْأَذَانِ،

الصفحة 10