كتاب جمع الوسائل في شرح الشمائل (اسم الجزء: 2)

فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَى اللَّهَ فِي الْمَنَامِ; فَإِنَّ رُؤْيَتِي لَهُ مُقَدِّمَةٌ أَوْ مُبَشِّرَةٌ لِذَلِكَ الْمَرَامِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: الْحَقُّ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيِ: الْأَمْرُ الثَّابِتُ الَّذِي هُوَ أَنَا، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي، انْتَهَى.
وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَنْ رَآهُ بِصُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيَاتِهِ كَانَتْ رُؤْيَاهُ حَقًّا، وَمَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صُورَتِهِ كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ، وَأَغْرَبَ النَّوَوِيُّ وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَأَجَابَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِأَنَّ كَلَامَ الْقَاضِي لَا يُنَافِي ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً فِي الْحَالَيْنِ، لَكِنْ فِي الْأُولَى لَا يَحْتَاجُ تِلْكَ الرُّؤْيَا إِلَى تَعْبِيرٍ، وَفِي الثَّانِيَةِ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ كَالْبَاقِلَّانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوا مَنْ قَالَ: مَحَلُّ هَذَا أَنَّ الرُّؤْيَا تُوجَدُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ رَآهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ يَكُونُ رُؤْيَاهُ أَضْغَاثَ أَحْلَامٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَرَى نَوْمًا عَلَى حَالَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ مُخَالَفَةً لِحَالَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ تَمَكَّنَ الشَّيْطَانُ مِنَ التَّمْثِيلِ لِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ لِعَارِضِ عُمُومِ قَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي عَلَى مَا سَبَقَ، فَالْأَوْلَى تَنْزِيهُ رُؤْيَاهُ مُطْلَقًا عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَوْفَقُ فِي الْحُرْمَةِ، وَأَلْيَقُ بِالْعِصْمَةِ كَمَا عُصِمَ مِنَ الشَّيْطَانِ فِي الْيَقَظَةِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ فِي كُلِّ حَالٍ لَيْسَتْ بَاطِلَةً، وَلَا أَضْغَاثًا، بَلْ هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ رُؤِيَ بِغَيْرِ صِفَتِهِ ; إِذْ تَصْوِيرُ تِلْكَ الصُّورَةِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (مُعَلَّى) بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فَمُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ (ابْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ
حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي) أَيْ: فِي حَقِيقَةِ الْمَرَامِ (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي) أَيْ: فَلَا تَكُونُ رُؤْيَايَ عَنْ أَضْغَاثِ أَحْلَامٍ، حُكِيَ أَنَّ أَبَا جَمْرَةَ وَالْمَازِرِيَّ وَالْيَافِعِيَّ وَغَيْرَهُمْ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ عَنْ جَمْعٍ أَنَّهُمْ حَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةَ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَوْمًا فَرَأَوْهُ يَقَظَةً بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ عَنْ تَشْوِيشِهِمْ فِي الْأَشْيَاءِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوُجُوهِ تَفْرِيجِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ سَابِقًا قَالَ: وَمُنْكِرُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا بَحْثَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ بِمَا أَثْبَتَتْهُ السُّنَّةُ، وَإِلَّا فَهَذِهِ مِنْهَا إِذْ يُكْشَفُ لَهُمْ بِخَرْقِ الْعَادَةِ عَنْ أَشْيَاءَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَحُكِيَتْ رُؤْيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَلِكَ عَنِ الْأَمَاثِلِ كَالْإِمَامِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ، كَمَا هُوَ فِي عَوَارِفِ الْمَعَارِفِ، وَالْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ، كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ التَّاجُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ، وَكَصَاحِبِهِ الْإِمَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ، وَالْإِمَامِ عَلِيٍّ الْوَفَائِيِّ، وَالْقُطْبِ الْقَسْطَلَانِيِّ، وَالسَّيِّدِ نُورِ الدِّينِ الْإِيجِيِّ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْغَزَالِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُنْقِذِ مِنَ الضَّلَالِ: وَهُمْ يَعْنِي أَرْبَابَ الْقُلُوبِ فِي يَقَظَتِهِمْ يُشَاهِدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَسْمَعُونَ مِنْهُمْ أَصْوَاتًا وَيَقْتَبِسُونَ مِنْهُمْ فَوَائِدَ انْتَهَى.
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأَهْدَلُ الْيَمَنِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْقَوْلُ بِذَلِكَ يُدْرَكُ فَسَادُهُ بِأَوَائِلِ الْعُقُولِ ; لِاسْتِلْزَامِهِ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ، وَمَشْيَهُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَمُخَاطَبَتَهُ لِلنَّاسِ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ لَهُ، وَخُلُوَّ قَبْرِهِ عَنْ جَسَدِهِ الْمُقَدَّسِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ فِيهِ شَيْءٌ بِحَيْثُ يُزَارُ مُجَرَّدُ الْقَبْرِ، وَيُسَلَّمُ عَلَى غَائِبٍ، وَأَشَارَ كَذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِأَنَّ الرَّائِيَ لَهُ فِي الْمَنَامِ رَأَى حَقِيقَةً، ثُمَّ يَرَاهُ كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ جَهَالَاتٌ، وَلَا يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى مَسْكَةٍ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَمُلْتَزِمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُخْبِلٌ مَخْبُولٌ. انْتَهَى.
وَهَذِهِ الْإِلْزَامَاتُ كُلُّهَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِلَازِمٍ لِذَلِكَ، وَدَعْوَى اسْتِلْزَامِهِ لِذَلِكَ عَيْنُ الْجَهْلِ أَوِ الْعِنَادِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ رُؤْيَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً لَا تَسْتَلْزِمُ خُرُوجَهُ مِنْ قَبْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا مَرَّ أَنَّ اللَّهَ يَخْرِقُ لَهُمُ الْحُجُبَ فَلَا مَانِعَ عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا، وَلَا عَادَةً أَنَّ الْوَلِيَّ وَهُوَ بِأَقْصَى الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ يُكْرِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لَا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذَّاتِ الشَّرِيفَةِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّهَا مِنَ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ سَاتِرًا وَلَا حَاجِبًا بِأَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْحُجُبَ كَالزُّجَاجِ الَّذِي يَحْكِي مَا وَرَاءَهُ وَحِينَئِذٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ يَقَعُ نَظَرُهُ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي، وَإِذَا أُكْرِمَ إِنْسَانٌ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَيْهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُكَرَّمَ بِمُحَادَثَتِهِ وَمُكَالَمَتِهِ وَسُؤَالِهِ عَنِ الْأَشْيَاءِ وَأَنَّهُ يُجِيبُهُ عَنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ مُنْكَرٍ شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، وَإِذَا كَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ وَالنَّتِيجَاتُ غَيْرَ مُنْكَرَيْنِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَإِنْكَارُهُمَا أَوْ إِنْكَارُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ، وَلَا مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ غَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا، كَيْفَ، وَقَدْ مَرَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الرُّؤْيَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ فَتْحِ الْبَارِي فَقَالَ بَعْدَ مَا مَرَّ عَنِ ابْنِ أَبِي جَمْرَةَ، وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ لَكَانَ
هَؤُلَاءِ صَحَابَةً، وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،

الصفحة 237