كتاب جمع الوسائل في شرح الشمائل (اسم الجزء: 2)

وَيُرَدُّ بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنْ يَكُونَ رَآهُ فِي حَيَاتِهِ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ دَفْنِهِ هَلْ يُسَمَّى صَحَابِيًّا أَمْ لَا؟ عَلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، وَالْأُمُورُ الَّتِي كَذَلِكَ لَا يُغَيَّرُ لِأَجْلِهَا الْقَوَاعِدُ الْكُلِّيَّةُ، وَنُوزِعُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلِأَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَدَّ حُزْنُهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ كَمَدًا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَبَيْتُهَا مُجَاوِرٌ لِضَرِيحِهِ الشَّرِيفِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهَا رُؤْيَتُهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ انْتَهَى.
وَيُرَدُّ أَيْضًا بِأَنَّ عَدَمَ نَقْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ، بَلْ، وَلَا عَدَمَ وُقُوعِهِ عَلَى جَوَازِ تَحَقُّقِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَتَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ مَا وَقَعَ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَيَظُنُّونَهَا يَقَظَةً، فِيهِ إِسَاءَةُ ظَنٍّ بِهِمْ، حَيْثُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ رُؤْيَةُ الْغَيْبَةِ بِرُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ، وَهَذَا لَا يُظَنُّ بِأَدْوَنِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِأَكَابِرِ الْأَوْلِيَاءِ.
قُلْتُ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ إِسَاءَةِ الظَّنِّ، بَلْ مِنْ بَابِ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمُشَاهَدِ وَالْمَعْقُولِ، فَإِنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعُوا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَإِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا لَا يَجُوزُ بِمَا وَقَعَ فِي حَالِ الْمَنَامِ، وَلَوْ كَانَ الرَّائِي مِنْ أَكَابِرِ الْأَنَامِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَازِرِيُّ بِأَنَّ مَنْ رَآهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ مَنْ يَحْرُمُ قَتْلُهُ كَانَ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ أَيْضًا عَلَى رُؤْيَةِ عَالَمِ الْمِثَالِ أَوْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عَنِ الْإِمَامِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَبَعْدَ حَمْلِنَا عَلَى عَالَمِ الْمِثَالِ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ فِي عَالَمِ الدُّنْيَا مَعَ ضِيقِهَا، قَدْ يَحْصُلُ لَهُمْ أَبْدَانٌ مُكْتَسَبَةٌ وَأَجْسَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَتَعَلَّقُ حَقِيقَةُ أَرْوَاحِهِمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبْدَانِ، فَيَظْهَرُ كُلٌّ فِي خِلَافِ آخَرَ مِنَ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ، وَحِينَئِذٍ لَا نَقُولُ بِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ فِي عَالَمِ الْبَرْزَخِ بِكَوْنِهِ مَحْصُورًا فِي قَبْرِهِ، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يَجُولُ فِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَإِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ مَعَ أَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا كَانَتْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى قِنْدِيلٍ مُعَلَّقَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَفِي مَحَلِّهِ مُحَرَّرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ قُبُورَهُمْ خَالِيَةٌ عَنْ أَجْسَادِهِمْ، وَأَرْوَاحَهُمْ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَجْسَامِهِمْ ; لِئَلَّا يَسْمَعُوا سَلَامَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا وَرَدَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُلَبُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَاتِ، وَأُمَّتُهُ مُكْرَمَةٌ بِحُصُولِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الْأَهْدَلِ وَغَيْرِهِ فَتَأَمَّلْ.
وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلَاتِهِ فَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ الْعَارِفِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيِّ لَوْ حُجِبَ عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا عَدَدْتُ نَفْسِي مُسْلِمًا بِأَنَّ هَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ، أَيْ: لَوْ حُجِبَ عَنِّي حِجَابَ غَفْلَةٍ وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يُحْجَبُ عَنِ الرُّوحِ الشَّخْصِيَّةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ أَيْ: عُرْفًا وَعَادَةً، إِذْ لَا يُعْرَفُ اسْتِمْرَارُ خَارِقِ الْعَادَةِ أَصْلًا لَا شَرْعًا، وَلَا عَقْلًا، فَانْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ بِوَجْهٍ أَصْلًا (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِلَّا لَقَالَ: وَقَالَ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِغْنَاءً عَنِ التَّصْرِيحِ بِمُقْتَضَى التَّوْضِيحِ (وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ)
أَيِ: الْكَامِلِ لِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) وَالْمُرَادُ: غَالِبُ رُؤْيَا الصَّالِحِينَ، وَإِلَّا فَقَدَ يَرَى الصَّالِحُ الْأَضْغَاثَ نَادِرًا لِقِلَّةِ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَرَى غَيْرُ الصَّالِحِ أَيْضًا الرُّؤْيَةَ الْحَسَنَةَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْأَصْلِ مَوْقُوفٌ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعٌ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ، وَهُمْ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ الْحَكِيمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ، وَلَفْظُهُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ بِلَفْظِ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْدَادِ إِنَّمَا هُوَ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ بِالْأَجْزَاءِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرَّائِي أَوِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مَرْفُوعًا رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ فِي الْمَنَامِ، وَالظَّاهِرُ رَفْعُ الْعَبْدِ، وَلَا يَبْعُدُ نَصْبُهُ، بَلْ هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَقَامِ الْمَرَامِ، ثُمَّ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ عِلْمِ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ بَاقِيَةٍ، وَعَمَلُهَا بَاقٍ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

الصفحة 238