كتاب جمع الوسائل في شرح الشمائل (اسم الجزء: 2)

أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ لَمَّا لَقِينَاهُمْ أَيِ: الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقِفُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ فَجَعَلْنَا نَسُوقُهُمْ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى صَاحِبِ الْبَغْلَةِ الْبَيْضَاءِ ; فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَقَّانَا عِدَّةُ رِجَالٍ بِيضُ الْوُجُوهِ حِسَانٌ فَقَالُوا: لَنَا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ارْجِعُوا قَالَ: فَانْهَزَمْنَا وَرَكِبُوا أَكْتَافَنَا.
وَفِي سِيرَةِ الدِّمْيَاطِيِّ كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمُ حَمْرَاءُ أَرْخَوْهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، وَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ فَأَفْضَوْا فِيهِ إِلَى الذُّرِّيَّةِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَقَالَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» ، وَاسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَكَانَ فِي إِمْسَاكِهِ تَعَالَى لِقُلُوبِ هَوَازِنَ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْفَتْحِ الْمَجْعُولِ عَلَامَةً عَلَى دُخُولِ النَّاسِ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا إِتْمَامٌ لِإِعْزَازِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَزِيدٌ لِنُصْرَتِهِ بِقَهْرِ هَذِهِ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَمْ يَلْقَوْا قَبْلَهَا مِثْلَهَا، وَأُذِيقُوا أَوَّلًا مَرَارَةَ الْهَزِيمَةِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ لِتَتَوَاضَعَ رُءُوسٌ رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ وَلَمْ يَدْخُلْ بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ عَلَى هَيْئَةِ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِيَتَبَيَّنَ لِمَنْ قَالَ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ، أَنَّ النَّصْرَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الْمُتَوَلِّي لِنَصْرِ دِينِهِ وَرَسُولِهِ دُونَ كَثْرَتِهِمُ الَّتِي أَعْجَبَتْهُمْ بِأَنَّهَا
لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا فَلَمَّا انْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ جَبَرَهَا اللَّهُ بِأَنْ أَنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُ إِلَّا هُنَا وَفِي بَدْرٍ، وَاخْتَصَّتَا أَيْضًا بِرَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِأَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى كَانَتْ فِي أَوَّلِ أَمْرِ الدِّينِ، وَقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ.
وَالْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ كَثْرَتِهِمْ وَإِعْزَازِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ مُعَاوَنَةِ الرَّبِّ فِي كُلِّ حَالٍ، ثُمَّ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، فَانْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الطَّائِفِ، وَبَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ، وَقَوْمٌ مِنْهُمْ فَرُّوا إِلَى أَوَطَاسٍ، وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَرْبَعَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ وَالْمُعِينُ.

(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ) أَيْ: قَضَاءِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا مِنْ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، سَوَاءٌ كَانَ حَجُّهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَوْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ إِنْ كَانَ إِحْرَامُهُ بِعُمْرَةٍ لَا غَيْرَ قَضَاهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ إِذَا أُحْصِرَ فِي حَجَّةِ الْفَرْضِ، وَحَلَّ مِنْهَا الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَرْبَعَةِ كَمَا فِي التَّطَوُّعِ عِنْدَنَا ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَنَا دَلِيلٌ إِلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي الْآيَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لَكَانَ كَافِيًا.
وَأَمَّا مَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْفَرْقَ هُوَ أَنَّ النَّفْلَ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ اسْتُثْنِيَ لَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ، فَمَنْ شَرَعَ فِي حَجِّ نَفْلٍ أَوْ عُمْرَةٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهَا إِجْمَاعًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، وَنَحْنُ قِسْنَا سَائِرَ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِمَا مَعَ دَلَالَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ وَمَنْعِ قُبْحِ الْمُلَاعَبَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بِأَنْ يَشْرَعَ فِي عِبَادَةٍ ثُمَّ يَتْرُكُهَا ثُمَّ يَفْعَلُهَا ثُمَّ يُبْطِلُهَا وَهَلُمَّ جَرَّا وَقَالَ بْنُ حَجَرٍ الْمُرَادُ بِالْقَضَاءِ هُنَا الْقَضِيَّةُ أَيِ: الْمُقَاضَاةُ وَالْمُصَالَحَةُ لَا الْقَضَاءُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّ عُمْرَتَهُمُ الَّتِي تَحَلَّلُوا مِنْهَا بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ قَضَاؤُهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحْصَرِ عِنْدَنَا انْتَهَى. وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى (وَابْنُ رَوَاحَةَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ، وَهُوَ أَحَدُ شُعَرَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَهُوَ) أَيِ: ابْنُ رَوَاحَةَ (يَقُولُ خَلُّوا) أَيْ: دُومُوا عَلَى التَّخْلِيَةِ ; لِأَنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ تَرَكُوا مَكَّةَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بَنِي الْكُفَّارِ) بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ: يَا أَوْلَادَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (عَنْ سَبِيلِهِ) بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ الْهَاءِ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْأَصِيلِ، وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا سَبِيلَهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَادْخُلُوا فِي سَبِيلِهِ مِنَ الدِّينِ الْأَقْوَمِ (الْيَوْمَ) أَيْ: هَذَا الْوَقْتَ الَّذِي لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَيْكُمْ بِمُقْتَضَى قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ (نَضْرِبْكُمْ) بِسُكُونِ الْبَاءِ لِلضَّرُورَةِ أَيْ: نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَقْدِيرِ نَقْضِ عَهْدِكُمْ، وَقَصْدِ مَنْعِكُمْ (عَلَى تَنْزِيلِهِ) أَيْ: بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا مُنَزَّلًا عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَوْ بِنَاءً عَلَى تَنْزِيلِكُمْ
إِيَّاهُ وَإِعْطَاءِ الْعَهْدِ وَالْأَمَانَ لَهُ فِي دُخُولِ حَرَمِ اللَّهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَالضَّمِيرُ فِي كِلَا الْمِصْرَاعَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ، سَوَاءٌ لَاحَظْنَا الْفَاعِلَ الْمُقَدَّرَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِيقَةِ، أَوْ رَاعَيْنَا الْمَجَازَ، فَأَضَفْنَا التَّنْزِيلَ إِلَيْهِمْ لِكَوْنِهِمُ السَّبَبَ فِي نُزُولِهِ حَيْثُ جَوَّزُوا لَهُ فِي قَصْدِ وُصُولِهِ وَغَرَضِ حُصُولِهِ، وَلَا شَكَّ فِي ظُهُورِ هَذَا الْمَحَلِّ لَفْظًا

الصفحة 41