كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 2)

الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ جَنَّةُ الْمَأْوَى جَنَّةٌ فِيهَا طَيْرٌ خُضْرٌ تَرْعَى فِيهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ عَلَى مَارِقِ نَهْرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا قَالَ ابْنُ رَجَبٍ وَلَعَلَّ هَذَا فِي عَوَامِّ الشُّهَدَاءِ وَاَلَّذِينَ هُمْ فِي الْقَنَادِيلِ تَحْتَ الْعَرْشِ خَوَاصُّهُمْ وَلَعَلَّ هَذَا فِي شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ كَالْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ التَّكْلِيفَ مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ أَرْوَاحَ وِلْدَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَجْوَافِ عَصَافِيرَ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءُوا فَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ» أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ لَهُ أَيْ إبْرَاهِيمَ وَلَدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَظِئْرَيْنِ يُكْمِلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا أَهْلُ التَّكْلِيفِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا قَالَ أَحْمَدُ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إذَا مَاتَ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى جَسَدِهِ حِينَ يَبْعَثُهُ وَعَنْ وَهْبٍ أَنَّهَا فِي دَارٍ يُقَالُ لَهَا الْبَيْضَاءُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْقُبُورِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ دُفِنَ لَا تُفَارِقُهُ قَالَ وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْقُبُورِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ أَرْوَاحِهِمْ عَلَى أَفْنِيَةِ قُبُورِهِمْ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَأَرْوَاحُهُمْ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَلَكِنْ لَهَا مَعَ ذَلِكَ اتِّصَالٌ سَرِيعٌ بِالْجَسَدِ وَلَا يَعْرِفُ كُنْهَ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمَرْفُوعَةُ وَالْمَوْقُوفَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ كَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ مَالِكٍ بَلَغَنِي أَنَّ الرُّوحَ مُرْسَلَةٌ تَذْهَبُ حَيْثُ شَاءَتْ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو نَحْوُهُ وَيَجْمَعُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْعَارِفُ ابْنُ تُرْجُمَانَ فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى حَيْثُ قَالَ وَالنَّفْسُ مُبْرَأَةٌ مِنْ بَاطِنِ مَا خُلِقَ مِنْهُ الْجِسْمُ وَهِيَ رُوحُ الْجِسْمِ وَأَوْجَدَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الرُّوحَ مِنْ بَاطِنِ مَا بَرَأَ مِنْهُ النَّفْسَ وَهِيَ لِلنَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْسِ لِلْجِسْمِ وَالنَّفْسُ حِجَابُهُ وَالرُّوحُ تُوصَفُ بِالْحَيَاةِ وَبِإِحْيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ وَمَوْتُهُ أَيْ الرُّوحِ خُمُودٌ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ يَوْمَ خُمُودِ الْأَرْوَاحِ وَالْجِسْمُ يُوصَفُ بِالْمَوْتِ حَتَّى يَجِيءَ بِالرُّوحِ وَمَوْتُهُ مُفَارَقَةُ الرُّوحِ إيَّاهُ وَإِذَا فَارَقَ هَذَا الْعَبْدُ الرُّوحَانِيُّ الْجِسْمَ صُعِدَ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى يَصْعَدَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ فَيَسْجُدُ ثُمَّ يُجْعَلُ حَقِيقَتُهُ النَّفْسَانِيَّةُ تَعُمُّ السُّفْلَ مِنْ قَبْرِهِ إلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْجَوِّ وَحَقِيقَتُهُ الرُّوحَانِيَّةُ تَعُمُّ الْعُلُوَّ مِنْ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إلَى السَّابِعَةِ فِي سُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَلِذَلِكَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُوسَى قَائِمًا فِي قَبْرِهِ يُصَلِّي وَإِبْرَاهِيمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَبْلَ صُعُودِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَلَقِيَهُمَا فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى فَتِلْكَ أَرْوَاحُهُمَا وَهَذِهِ نُفُوسُهُمَا وَأَجْسَادُهُمَا فِي قُبُورِهِمَا وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا لَمْ يُفْتَحْ لَهُ فَيُرْمَى مِنْ عُلُوٍّ إلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الْكَبِيرِ يَزُولُ بِهِ مَا لِلْقُرْطُبِيِّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِرَاضَاتِ مِنْ جُمْلَتِهَا حَدِيثُ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ عَلَى الْقَبْرِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْجَرِيدَتَيْنِ.
وَالْجَوَابُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ أَنَّ الَّذِي فِي الْقَبْرِ إنَّمَا هُوَ حَقِيقَتُهُ النَّفْسَانِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالرُّوحِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَقَدْ قِيلَ إنَّهَا تَزُورُ قُبُورَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الدَّوَامِ وَلِذَلِكَ سُنَّ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا وَبَكْرَةَ السَّبْتِ اهـ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ وَرَجَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَأَرْوَاحَ غَيْرِهِمْ فِي أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ وَقَالَتْ فِرْقَةٌ تَجْتَمِعُ الْأَرْوَاحُ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ إنَّ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَجْتَمِعُ بِالْجَابِيَةِ وَأَمَّا أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ فَتَجْتَمِعُ بِسَبْخَةِ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهَا بَرَهُوتُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بَعْضُ بُقْعَةٍ فِي الْأَرْضِ وَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ بَرَهُوتُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ وَفِيهِ بِئْرُ مَاءٍ يُرَى بِالنَّهَارِ أَسْوَدَ كَأَنَّهُ قَيْحٌ يَأْوِي إلَيْهَا الْهَوَامُّ» «قَالَ سُفْيَانُ وَسَأَلْنَا الْحَضْرَمِيِّينَ فَقَالُوا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَبِيتَ فِيهِ بِاللَّيْلِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَرَهُوتَ يَعْنِي الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ هَذَا الْبِئْرُ قَالَ نَجِدُ الرَّائِحَةَ الْمُنْتِنَةَ الْفَظِيعَةَ جِدًّا ثُمَّ نَمْكُثُ

الصفحة 8