كتاب التقاسيم والأنواع (اسم الجزء: 2)

فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ النَّاسُ أُهْبَة، وَأَنَا أَيْسَرُ مَا كُنْتُ، قَدْ جَمَعْتُ رَاحِلَتَيْنِ لِي، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم غَادِيًا بِالْغَدَاةِ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَأَصْبَحَ غَادِيًا، فَقُلْتُ: أَنْطَلِقُ غدا إِلَى السُّوقِ وَأَشْتَرِي جِهَازِي، ثُمَّ أَلْحَقُ بِهَا، فَانْطَلَقْتُ إِلَى السُّوقِ مِنَ الْغَدِ، فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ فَأَلْحَقُ بِهِمْ، فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي أَيْضًا، فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَبَّسَ بِيَ الذَّنْبُ، وَتَخَلَّفْتُ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم، فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَأَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، فَيُحْزِنُنِي أَنْ لَا أَرَى أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم إِلَاّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، وَكَانَ لَيْسَ أَحَدٌ تَخَلَّفَ إِلَاّ أَرَى ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ كَثِيرًا لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ، وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم بَضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً.
وَلَمْ يَذْكُرْنِي النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكا، فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكا، قَالَ: "مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي: خَلَّفَهُ يَا رَسُولَ اللهِ، بُرْدَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا نَبِيَّ اللهِ مَا نَعْلَمُ إِلَاّ خَيْرًا، قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم: "كُنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَقَفَلَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلْتُ أَتَذَكَّرُ مَاذَا أَخْرُجُ بِهِ مِنْ سَخَطِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، حَتَّى إِذَا قِيلَ: النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم مُصَبِّحُكُمْ بِالْغَدَاةِ، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لَا أَنْجُو إِلَاّ بِالصِّدْقِ.
فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيه وسَلم ضَحًى، فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَعَلَ ذَلِكَ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ فَجَعَلَ يَأْتِيهِ مَنْ تَخَلَّفَ، فَيَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ.

الصفحة 434