كتاب موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (اسم الجزء: 2/ 1)

فتراهم ينسجون الكلام على رعاية ما سبق من الألفاظ في أغلب أحوالهم، وقد يذهبون فيه إلى ما يطابق المعنى، غيرَ مبالين بالألفاظ حيث لا يتوقف حسنُ صياغة المعنى على التزام رعايتها، فإذا دلوا على المعنى بلفظ، لم يجدوا حرجاً في أن يتحدثوا عنه كأنه ذكر بلفظ آخر مألوف الاستعمال عند تأدية هذا المعنى الذي صيغ من أجله الخطاب. وهذا مذهب من مذاهب البيان فسيح، بسطه ابن جنّي في كتاب "الخصائص" تحت عنوان: (فصل في الحمل على المعنى)، وقال: قد ورد في القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً. وقال بعد هذا: والحمل على المعنى في هذه اللغة واسع جداً، ومن صوره: تصويرُ الجماعة في صورة الواحد، ومن شواهد هذا التصوير قول العرب: "هو أحسن الفتيان وأجمله"، أفردوا الضمير مع أن مرجعه فيما يظهر جماعةٌ؛ لأن هذا الموضع يكثر فيه استعمال الواحد، ومن شواهده: قول ذي الرمة:
وميَّةُ أحسنُ الثَقلين وجهاً ... وسالفةً وأحسنُه قَذالا
فترك رعاية اللفظ المنطوق به، وبنى كلامه على لفظ آخر مما يؤلف في هذا المكان، فأفرد الضمير كأنه قال: أحسن مخلوق.
وفي الحديث النبوي: "خيرُ نساء ركبنَ الإبلَ خيارُ نساءِ قريشِ، أحناهُ على ولد في صِغَره، وأرعاه على زوجٍ في ذاتِ يده"، فقد أتى بالضمير في قوله: "أحناه، وأرعاه" مفرداً؛ ذهاباً إلى المعنى؛ فإن قوله: "خير نساء" في معنى خير مَن وُجد، أو خُلق.
قال ابن الأثير: ومنه قولهم: "أحسن الناس خلقاً, وأحسنه وجهاً"، وهو كثير من أفصح الكلام.

الصفحة 95