كتاب اصطناع المعروف لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

63 - حَدَّثَنِي محمد بن صالح, حدَّثَنا المنذر بن زياد الطائي, أو أبو المنذر, أنا أشك عن عيسى بن أبي عيسى الكندي, حَدَّثَنِي أبي, قال: كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه, كثيرا فيما إذا خطب يوم الجمعة يقول: يا أيها الناس, عليكم بالمعروف, واذكروا فعل الجني, قال: فقال أبي للأشتر: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن هذا الجني ما أمره, فقد أكثر فيه, قال: فأتيته أنا والأشتر حتى دخلنا عليه وهو في بيت المال, فقال: ما راعني بكما في هذه الساعة؟ قلنا: يا أمير المؤمنين, سمعناك تقول: عليكم بالمعروف, واذكروا فعل الجني, قال: أو ما تدرون ما هو؟ قالوا: لا, قال: فذاك كان فيكم, قالوا: من؟ قال: مالك بن حريم الهمداني, خرج حاجا في رهط من أصحابه, حتى إذا كانوا في بعض الطريق, قال لهم: أسندوا فقد قدرتم على الماء, قال: فأسندوا, فرقدوا, قال: فبينا هم كذلك, إذ طلع القمر من آخر الليل, فانساب عليهم شجاع من الجبل, فأطاف بالقوم وبصر به فتى منهم, فأدنى من العصا وأطاف بالقوم, فلما انتهى إلى الشيخ أهوى الفتى بالعصا وخشي أن يسبقه إلى الشيخ فيلسعه, فضربه فأخطأه ففزع الشيخ, فقال: مه؟ #56# قال الشجاع دخل تحتك, قال: فإنه إنما استجار بي فقد أجرته, قال: فخرج الشجاع حتى رجع من حيث بدأ, فقال: ارقدوا, فقد قدرتم على الماء, فما اسيقظوا إلا بالشمس قد طلعت فقاموا فأخذ كل إنسان بخطام راحلته يطلبون الماء, فإذا هم على ضلل, فلما رأى ذلك الشجاع ناداهم من الجبل:
يا أيها الركب لا ماء أمامكم ... حتى تسوقوا المطايا يومها الدأبا
ثم أسندوا يمنة فالماء عن كثب ... عين رواء وماء يذهب اللغبا
قال: فأسندوا, فإذا عين راكدة, فشربوا, واستقوا, وسقوا إبلهم, وصدروا, فلما رجعوا وكانوا بأدنى الجبل, قالوا: يا أبا حريم, لو استعذبنا من ذلك الماء, فأسندوا إلى الجبل, فطلبوا الماء, فإذا هم على ضلل, فلما رأى ذلك الشجاع ناداهم من الجبل:
يا مال عني جزاك الله صالحة ... هذا وداع لكم مني وتسليم
لا تزدهن في اصطناع العرف من أحد ... إن الذي يحرم المعروف محروم
أنا الشجاع الذي أنجيت من رهق ... شكرت ذلك إن الشكر مقسوم
من يفعل الخير لا يعدم مغبته ... ما عاش والشر منه الغب مذموم.

الصفحة 267