كتاب الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

فَبَيْنَا نَضَعُ رِحَالَنَا, إِذْ أَقْبَلَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، عَلَى أَعْنَاقِهِمُ الْبُسُطُ، فَبَسَطُوا لَنَا, ثُمَّ مَالُوا عَلَيْنَا بِأَطَايِبِ الطَّعَامِ، وَأَلْوَانِ الأَشْرِبَةِ، فَاسْتَرَحْنَا وَأَرَحْنَا، ثُمَّ نَهَضْنَا لِلرِّحْلَةِ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: إِنَّ سَيِّدَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ يُقْرِئُكُمُ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ: اعْذُرُونِي عَلَى تَقْصِيرٍ إِنْ كَانَ مِنِّي، فَإِنِّي مَشْغُولٌ بِعُرْسٍ لَنَا، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ، فَدَعَوْنَا لَهُمْ وَبَرَّكْنَا، فَعَمَدُوا إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ, فَمَلَؤُوا مِنْهُ سُفَرَنَا، فَقَضَيْتُ سَفَرِي, وَرَجَعْتُ مُتَنَكِّبًا لِذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَغَبَرَتْ بُرْهَةٌ مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ وَفَدَنِي مُعَاوِيَةُ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ فِي الْوَفْدِ، فَبَيْنَا أُحَدِّثُهُمْ بِحَدِيثِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا, إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ الآخِذُ إِلَيْهَا؟ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهَا, فَإِذَا هِيَ دَكَادِكُ وَتُلُولٌ، وَأَمَّا الْقُصُورُ, فَخَرَابٌ مَا يَبِينُ مِنْهَا إِلاَّ الرُّسُومُ، وَأَمَّا الْغَدِيرُ, فَلَيْسَ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَمَّا السَّرْجُ فَقَدْ عَفَا, وَدَثَرَ أَمْرُهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ مُتَعَجِّبُونَ, إِذْ لاَحَ لَنَا شَخَصٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْقَصْرِ الأَبْيَضِ، فَقُلْتُ لِبَعْضِ الْغِلْمَانِ: انْطَلِقْ, حَتَّى نَسْتَبْرِئَ ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَقَال: لَبِثت أَنْ عَادَ مَرْعُوبًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: أَتَيْتُ ذَلِكَ الشَّخْصَ, فَإِذَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ فَرَاعَتْنِي، فَلَمَّا سَمِعَتْ حِسِّي, قَالَتْ: أَسْأَلُكَ بِالَّذِي بَلَّغَكَ سَالِمًا, إِلاَّ أَخَذْتَ عَلَى عَيْنِكَ وَرُحْتَ, حَتَّى دَخَلْتَ فِي التَّلِّ، ثُمَّ قَالَتْ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقُلْتُ: أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ الْغَابِرَةُ، مَنْ أَنْتِ؟ وَمِمَّنْ أَنْتِ؟

الصفحة 432