كتاب الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

64 - حَدَّثَنِي أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ بَعْضِ مَنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا, بَلَغَ أَرْضَ بَابِلَ، مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا, أَشْفَقَ مِنْ مَرَضِهِ أَنْ يَمُوتَ بَعْدَمَا دَوَّخَ الْبِلاَدَ وَحَوَاهَا، وَاستعَبْدَ الرِّجَالَ، وَجَمَعَ الأَمْوَالَ، وَنَزَلَ أَرْضَ بَابِلَ، دَعَا كَاتِبَهُ فَقَالَ: خَفِّفْ عَلَيَّ الْمُؤْنَةَ بِكِتَابٍ تَكْتُبُهُ إِلَى أُمِّي تُعَزِّيهَا بِي، وَاسْتَعِنْ بِبَعْضِ عُلَمَاءِ فَارِسَ، ثُمَّ اقْرَأْهُ عَلَيَّ، فَكَتَبَ الْكِتَابَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الإِسْكَنْدَرِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ بَنَى الإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَبِاسْمِهِ سُمِّيَتِ الإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَالإِسْكَنْدَرَانِيُّ، فَكَتَبَ: مِنَ الإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَيْصَرَ, رَفِيقِ أَهْلِ الأَرْضِ بَجَسَدِهِ قَلِيلاً، وَرَفِيقِ أَهْلِ السَّمَاءِ بِرُوحِهِ طَوِيلاً، إِلَى أُمِّهِ رُومِيَّةَ ذَاتِ الصَّفَا، الَّتِي لَمْ تُمَتَّعْ بِثَمَرَتِهَا فِي دَارِ الْقُرْبِ، وَهِيَ مُجَاوِرَتُهُ عَمَّا قَلِيلٍ فِي دَارِ الْبُعْدِ، يَا أُمَّتَاهُ، يَا ذَاتَ الْحِلْمِ, أَسْأَلُكِ بِرَحِمِي وَوُدِّي, وَوِلاَدَتِكِ إِيَّاي: هَلْ وَجَدْتِ لِشَيْءٍ قَرَارًا ثَابِتًا، أَوْ خَيَالاً دَائِمًا، أَلَمْ تَرَي إِلَى الشَّجَرَةِ كَيْفَ تَنْضُرُ أَغْصَانُهَا، وَيَخْرُجُ ثَمَرُهَا، وَتَلْتَفُّ أَوْرَاقُهَا، ثُمَّ لاَ يَلْبَثُ الْغُصْنُ أَنْ يَتَهَشَّمَ، وَالثَّمَرَةُ أَنْ تَتَسَاقَطَ، وَالْوَرَقُ أَنْ يَتَنَاثَرَ؟ أَلَمْ تَرَي النَّبْتَ الأَزْهَرَ يُصْبِحُ نَضِيرًا، وَيُمْسِي هَشِيمًا؟ أَلَمْ تَرَي إِلَى النَّهَارِ الْمُضِيءِ كَيْفَ يَخْلُفُهُ اللَّيْلُ الْمُظْلِمُ؟ أَلَمْ تَرَي إِلَى الْقَمَرِ كَيْفَ يَغْشَاهُ الْكُسُوفُ؟ أَلَمْ تَرَي إِلَى شُهَبِ النَّارِ الْمُوقَدَةِ مَا أَسْرَعَ مَا تَخْمَدُ؟ أَلَمْ تَرَي إِلَى عَذْبِ الْمِيَاهِ الصَّافِيَةِ مَا أَسْرَعَهَا إِلَى الْبُحُورِ الْمُتَغَيِّرَةِ، أَلَمْ تَرَي إِلَى هَذَا الْخَلْقِ كَيْفَ يَتَعَيَّشُ فِي الدُّنْيَا, وَقَدِ امْتَلَأَتْ مِنْهُ الآفَاقُ، وَاسْتَعْلَتْ بِهِ الآمَاقُ، وَلَهَتْ بِهِ الأَبْصَارُ وَالْقُلُوبُ، إِنَّمَا هُمَا شَيْئَانِ: إِمَّا مَوْلُودٌ، وَإِمَّا نَبْتٌ، وَكِلاَهُمَا مَقْرُونٌ بِهِ الْفِنَاءُ؟ أَلَمْ تَرَي أَنَّهُ قِيلَ لأَهْلِ هَذِهِ الدَّارِ: رُوحِي بِأَهْلِكِ, فَإِنَّكِ لَسْتِ لَهُمْ بِدَارٍ, يَا وَالِدَةَ الْمَوْتِ، وَيَا مُوَرِّثَةَ الأَحْزَانِ، وَيَا مُفَرِّقَةً بَيْنَ الأَحْبَابِ، وَمُخَرِّبَةَ الْعُمْرَانِ،
أَلَمْ تَرَي أَنَّ كُلَّ مَخْلُوقٍ يَجْرِي عَلَى مَا لاَ يَدْرِي؟ وَأَنَّ كُلَّ مُسْتَيْقِنٍ مِنْهُمْ غَيْرُ رَاضٍ بِمَا هُوَ فِيهِ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَتْرُوكٌ لِغَيْرِ قَرَارٍ؟ وَهَلْ رَأَيْتِ يَا أُمَّتَاهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ بِالْبُكَاءِ حَقِيقًا, فَلْتَبْكِ السَّمَاوَاتُ عَلَى نُجُومِهَا، وَلْتَبْكِ الْبِحَارُ عَلَى مَائِهَا، وَلْيَبْكِ الْجَوُّ عَلَى طَائِرِهِ، وَلْتَبْكِ الأَرْضُ عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَالنَّبْتُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلْيَبْكِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ الَّذِي يَمُوتُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَعِنْدَ كُلِّ طَرْفَةٍ، وَفِي كُلِّ هَمٍّ وَقَوْلٍ وَفِعْلٍ، بَلْ عَلَى مَا يَبْكِي الْبَاكِي لِفَقْدِ مَا فَقَدَ، أَكَانَ قَبْلَ فِرَاقِهِ آمِنًا لِذَلِكَ مِنْ فَقْدِهِ، أَمْ هُوَ لِمَا بَقِيَ بَاقٍ لَهُ لِبُكَائِهِ، وَالْحُزْنِ عَلَيْهِ، أَوْ هُوَ بَاقٍ بَعْدَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلاَ وَهَذَا, فَلَيْسَ لِلْبَاكِي عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ يُتَّبَعُ، وَلاَ قَائِدٌ يَهْدِي، يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ الْمَوْتَ لَمْ يَبْغَتْنِي مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي كُنْتُ عَارِفًا إِنَّهُ نَازِلٌ بِي، فَلاَ يَبْغَتْكِ الْحُزْنُ، فَإِنَّكِ لَمْ تَكُونِي جَاهِلَةً بِأَنِّي مِنَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ، يَا أُمَّتَاهُ، إِنِّي كَتَبْتُ كِتَابِي هَذَا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ تُعَزَّيْ بِهِ، وَيُحْبَسُ مَوْقِعُهُ مِنْكِ، وَلاَ تَخْلِفِي ظَنِّي، وَلاَ تُحْزِنِي رُوحِي، يَا أُمَّتَاهُ، إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ يَقِينًا أَنَّ الَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ مَكَانِي الَّذِي أَنَا فِيهِ، أَطْهَرُ مِنَ الْهُمُومِ وَالأَحْزَانِ، وَالسَّقَمِ, وَالنَّصَبِ, وَالأَمْرَاضِ، فَاغْتَبِطِي لِي مَذْهَبِي، فَاسْتَعِدِّي فِي إِجْمَالِ الثَّنَاءِ عَلَيَّ، إِنَّ ذِكْرِي مِنَ الدُّنْيَا قَدِ انْقَطَعَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا كُنْتُ أُذْكَرُ بِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالرَّأْيِ، فَاجْعَلِ لِي مِنْ بَعْدِي ذِكْرًا أُذْكَرُ بِهِ فِي حِلْمِكِ وَصَبْرِكِ، وَطَاعَةِ الْفُقَهَاءِ، وَالرِّضَا بِمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ، يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ النَّاسَ سَيَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا مِنْكِ، وَمَا يَكُونُ مِنْكِ مِنْ بَيْنِ رَاضٍ وَكَارِهٍ, وَمُدْلٍ, وَمُسْمِعٍ، وَقَائِلٍ قَوْلاً، وَمُخْبِرٍ، فَأَحْسِنِي إِلَيَّ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِي, يَا أُمَّتَاهُ، السَّلاَمُ فِي هَذِهِ الدَّارِ قَلِيلٌ زَائِلٌ، فَلْيَكُنْ عَلَيْكِ وَعَلَيَّ فِي دَارِ الأَبَدِ السَّلاَمُ الدَّائِمُ، فَتَفَكَّرِي بِتَفَهُّمٍ وَرَغْبَةٍ بِنَفْسِكِ أَنْ تَكُونِي شِبْهَ النِّسَاءِ فِي الْجَزَعِ، كَمَا كُنْتُ لاَ أَرْضَى أَنْ أَكُونَ شِبْهَ الرِّجَالِ فِي الْجَزَعِ, وَالِاسْتِكَانَةِ, وَالضَّعْفِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُرْضِيكِ مِنِّي، وَمَاتَ.

الصفحة 449