كتاب الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

وَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ بَارِقَ هَذَا الْمَوْتِ لَبَارِقٌ مَا يُخْلِفُ، وَإِنَّ مَخِيلَتَهُ لَمَخِيلَةٌ لاَ تُخْلِفُ، وَإِنَّ صَوَاعِقَهُ لَصَوَاعِقُ مَا تُرَى، وَإِنَّ قَاطِرَهُ لَقَاطِرٌ مَا يُرْوَى، وَقَالَ قَائِلٌ: لَقَدْ تَقَطَّعَتْ بِكَ أَسْبَابٌ غَيْرُ مُتَّصِلَةٌ لَكَ، وَلَقَدْ تَرَكْتَ بِكَ بَلاَيَا غَيْرَ وَاقِعَةٍ بِكَ قَبْلُ، عَسَانَا أَنْ نَتَّعِظَ مِنْ أَمْرِكَ فَنَسْلَمُ، بَلْ عَسَانَا أَنْ لاَ نَتَّعِظَ فَنَهْلِكُ، وَقَالَ قَائِلٌ: كُنَّا لِلْعَامَّةِ أُسْوَةً بِمَوْتِ الْمُلُوكِ، وَكَفَى لِلْمُلُوكِ عِظَةً بِمَوْتِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ قَائِلٌ: انْطَوَتْ عَنِ الإِسْكَنْدَرِ آمَالُهُ الَّتِي كَانَتْ تَغُرُّهُ مِنْ أَجَلِهِ، وَتُرِكَ بِهِ أَجَلُهُ الْحَائِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمَلِهِ، وَقَالَ قَائِلٌ: يَا رِيحَ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يُشْتَهَى، مَا أَقْهَرَهُ لِلْحَيَاةِ الَّتِي لاَ تُمَلُّ، وَيَا رِيحَ الْحَيَاةِ الَّتِي تُمَلُّ مَا أَذَلَّهَا لِلْمَوْتِ الَّذِي لاَ يُحَبُّ، وَقَالَ الْقَائِلُ: مَا الْمَنِيَّةُ بِفَرْدٍ فَيُؤْمَنُ يَوْمُهَا، وَلاَ الْحَيَاةُ بِثِقَةٍ فَيُرْجَى غَدُهَا، وَقَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ سَيْفُكَ لاَ يَجِفُّ، وَنِقْمَتُكَ لاَ تُؤْمَنُ، وَكَانَتْ مَدَائِنُكَ لاَ تُرَامُ، وَكَانَتْ عَطَايَاكَ لاَ تُفْقَدُ، وَكَانَ ضِيَاؤُكَ لاَ يَنْكَشِفُ، فَأَصْبَحَ ضِيَاؤُكَ قَدْ خَمَدَ، وَأَصْبَحَتْ نِقْمَاتُكَ لاَ تُخْشَى، وَأَصْبَحَتْ عَطَايَاكَ لاَ تُرْجَى، وَأَصْبَحَتْ سُيُوفُكَ لاَ تَقْطُرُ، وَأُلْفِيَتْ مَدَائِنُكَ لاَ تَمْتَنِعُ، وَقَالَ قَائِلٌ: قَدْ كَانَ مَنْزِلُكَ مَرْهُوبًا، وَقَدْ كَانَ مُلْكُكَ غَالِبًا, فَأَصْبَحَ الصَّوْتُ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ قَدِ اتَّضَعَ.
69 - حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نُوحُ بْنُ مُجَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: وَكَانَ مُتَوَارِيًا عِنْدِي، فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَاسِطَ أَخَذَهُ، فَقَيَّدَهُ وَغَلَّهُ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ، وَأَنَا مَحْمُولٌ مَعَهُ أَخْدُمُهُ, حَتَّى قَدِمَ بِنَا عَلَيْهِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ بِهِ عَلَيْهِ, أَمَرَ بِبَيْتٍ, فَبُنِيَ لَهُ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فَأُدْخِلَهُ، فَذَهَبَ يَقُومُ, فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ صُلْبَهُ مِنْ قِصَرِهِ، فَجَلَسَ, فَاتَّكَأَ, فَذَهَبَ يَمُدُّ رِجْلَيْهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَا بُنَيَّ، بَيْنَمَا خَاتَمِي يَجُولُ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا, صِرْتُ لاَ أَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ, بَكَيْتُ، فَقَالَ: لاَ تَبْكِ يَا بُنَيَّ، أَلاَ أُحَدِّثُكَ عَنْ جَدِّكَ بِحَدِيثٍ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلاَّ حِفْظِهِ اللَّهُ فِي عَقِبِهِ وَعَقِبِ عَقِبِهِ.

الصفحة 456