كتاب الأولياء لابن أبي الدنيا - ط أطلس الخضراء = مقابل

قَالَ: فَقَامَ وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ, حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ مَيِّتٌ مُسَجًّى عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، فَقَالَ لِي عَبَّادٌ: هَذَا صَاحِبُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: تَرَكْتَهُ صَحِيحًا؟ قُلْتُ: تَرَكْتُهُ السَّاعَةَ صَحِيحًا، فَجَلَسَ يَبْكِي عِنْدَ رَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي جِهَازِهِ, وَصَلَّى عَلَيْهِ فَدَفَنَهُ، وَاحْتَشَدَ النَّاسُ فِي جَنَازَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ, قُلْتُ: وَاللهِ لأَقْرَأَنَّ الْكِتَابَ كما أمرني، فَفَتَحْتُهُ, فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَنْتَ يَا أَخِي فَنَفَعَكَ اللهُ بِمَعْرِوفِكَ يَوْمَ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى صَالِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَجَزَاكَ عَنْ صُحْبَتِنَا خَيْرًا، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَعْرُوفِ يَجِدُ لِجَنْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَضْطَجَعًا، وَإِنَّ حَاجَتِي إِلَيْكَ إِذَا قَضَى اللهُ عَنْكَ تَنْطَلِقُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ, فَتَدْفَعُ مِيرَاثِي إِلَى وَارِثِي، وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: كُلُّ أَمْرِكَ رَحِمَكَ اللهُ عَجَبٌ، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ أَمْرِكَ، كَيْفَ آتِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَلَمْ تُسَمِّ لِي أَحَدًا، وَلَمْ تَصِفْ لِي مَوْضِعًا، وَلاَ أَدْرِي إِلَى مَنْ أَدْفَعُهُ؟ قَالَ: وَخَلَّفَ قَدَحًا وَجِرَابَهُ ذَاكَ, وَعَصًا كَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، قَالَ: وَكَفَّنَّاهُ فِي ثَوْبَيْ إِحْرَامِهِ، وَلَفَفْنَا الْعَبَاءَةَ فَوْقَ ذَلِكَ، قال: فَلَمَّا انْقَضَى الْحَجُّ, قُلْتُ: وَاللهِ لأَنْطَلِقَنَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ, فَلَعَلِّي أَنْ أَقَعَ عَلَى وَارِثِ هَذَا الرَّجُلِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ, حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ, فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَهُمْ حِلَقٌ حِلَقٌ، [قَوْمٌ] فُقَرَاءُ مَسَاكِينُ، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَدُورُ, أَتَصَفَّحُ النَّاسَ, لاَ أَدْرِي عَمَّنْ أَسْأَلُ, إِذْ نَادَانِي رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْحِلَقِ بِاسْمِي: يَا فُلاَنُ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا بِشَيْخٍ كَأَنَّهُ صَاحِبِي، فَقَالَ: هَاتِ مِيرَاثَ فُلاَنٍ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْعَصَا, وَالْقَدَحَ, وَالْجِرَابَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ رَاجِعًا، فَوَاللهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى قُلْتُ لِنَفْسِي: تَضْرِبُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ رَأَيْتَ مِنَ الشَّيْخِ الأَولِ مَا رَأَيْتَ، وَرَأَيْتَ مِنْ هَذَا الشَّيْخِ الثَّانِي مَا رَأَيْتَ، لاَ تَسْأَلُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ أَيُّ شَيْءٍ قِصَّتُهُمْ؟ وَتَسْأَلُهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ وَمِنْ رَأْيِي أَلاَّ أُفَارِقَ هَذَا الشَّيْخَ الآخَرَ حَتَّى يَمُوتَ, أَوْ أَمُوتَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَدُورُ فِي الْحِلَقِ، وَأَجْهَدُ عَلَى أَنْ أَعْرِفَهُ, أَوْ أَقَعَ عَلَيْهِ، فَلَمْ أَقَعْ عَلَيْهِ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ عَنْهُ, وَأقمت أَيَّامًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَطْلُبُهُ وَأَسْأَلُ عَنْهُ, فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَدُلُّنِي عَلَيْهِ، فَرَجَعْتُ مُنْصَرِفًا إِلَى الْعِرَاقِ.

الصفحة 641