" صفحة رقم 100 "
العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد .
وقال في ( المنتخب ) أيضاً : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضى فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفياً للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهياً لكمال الفضيلة .
وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً ، لا إلى وجوده محسوساً ، كقوله : ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء ( ومعناه مشروعاً لا محسوساً ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله : ) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي .
وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :
أحدهما : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر .
الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود .
الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي .
الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : مَنْ ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : مَنْ ، موصولة . وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزآء بالشرط ، إذا كان الشرط بالإسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدراً . ويحتمل وجهين .
أحدهما : أن يقدر منه بعد : ولا جدال ، ويكون منه في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين .
والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .
وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط .
قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جمله غير الجمله الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج .
وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج . أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفاً وسلفاً ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمع يقول : ( للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع ) . وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل إمرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار .
وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطىء .
وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) في حق الصائم : ( فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني