" صفحة رقم 104 "
ولأن قياس الحج على الصلاة ، قياس فاسد ، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول ، حيث لم يكن حاجاً ، لا يقال : حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما ، لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط . ونسب للياه فزان .
الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها : لا جناح عليكم ، إنما يقال : في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصاً في الطاعة : لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصاً فالأولى تركها ، فهي إذاً جارية مجرى الرخص .
وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ فِيهِمَا ( و : من وبكم ، متعلق : بتبتغوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل . فتكون : من ، لابتداء الغاية أيضاً ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول .
( فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ ( قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلاَّ بعده . انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أوا لندب ؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك .
وقال في ( المنتخب ) : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً . انتهى كلامه .
فقوله : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عنى مشروط وجودها ، أي : وجود الإِفاضة بالحصول في عرفات ، فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرف واتخذها مسكناً إلى أن مات لم تجب عليه الإِفاضة منها ، ولم يكن مفرطاً في واجب إذا مات بها ، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها .
وقوله : وما لا يتم الواجب ، إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإِفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و : إذا ، لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه : متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإِفاضة كان مجزياً .
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجة تام ، إلاَّ مالكاً فقال : يبطل حجه .
وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل .
ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم .
ولو أفاضل قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم . وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه . وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء منالليل إلاَّ ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزىء ، وأن من أفاض نهاراً لا شيء عليه .
ومن ، في قوله : من عرفات ، لابتداء الغاية ، وهي تتعلق : بأفضتم ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات ، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات . وحكى الباجي ، عن ابن حبيب : أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ، وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو