كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 108 "
النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشاً وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس . وهذا قول الجمهور . وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها .
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلاَّ أن : ثم ، على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : ) فَإِذْ أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ثُمَّ أَفِيضُواْ ( الإفاضة قد تقدمّت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان ؟ وأجيب عن هذا بوجوه .
أحدهما : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذ ضربك زيد فاضربه ؟ فلا يكون زيد مأموراً بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن : ثم ، هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم ، تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب . وقد حمل بعض الناس : ثم ، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً ، فجعل : ) ثُمَّ أَفِيضُواْ ( معطوفاً على قوله : ) وَاتَّقُونِ يأُوْلِي أُوْلِى الالْبَابِ ( كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم ، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله ) ثُمَّ أَفِيضُواْ ( جميع المسلمين ، وقد قال بهذا : الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن . وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم ؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي : ثم ، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، التفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن احدهما صواب والثانية خطأ . انتهى كلامه .
وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن : ثم ، تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضاً ذكر الإفاضة الخطأ فيكون : ثم ، في قوله : ثم أفيضوا ، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحداً سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم .
و : مِنْ حيث ، متعلق : بأفيضوا ، و : مِنْ ، لابتداء الغاية ، و : حيث ، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان ، وقال القفال : من حيث أفاض الناس ، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة ، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي ، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين ، لأن الأولى في المكان ، والثانية في الزمان ، ولا تغاير ، لأن كلاًّ منهما يقتضي الآخر ويدل عليه ، فهما متلازمان . أعني : مكان الإفاضة من عرفات ، وزمانها . فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء بثم .
و : الناس ، ظاهره العموم في المفيضين ، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس ، كما تقول : هذا مما يفعله الناس ، أي عادتهم ذلك ، وقيل : الناس أهل اليمن وربيعة ، وقيل : جميع العرب دون الحمس ، وقيل : الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به ، وقيل : إبراهيم وحده ، وقيل : آدم وحده ، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه ، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع ، وكذلك من له صفات كثيرة ، ومنه قوله :

الصفحة 108