كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 18 "
وأخذ المال ، والاعتداء ، وتجاوز الحد يشمل ذلك كله .
وقال الزمخشري : بعد ذلك التخفيف ، فجعل ذلك إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن ذلك إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفاً هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : مَنْ في قوله : ) فَمَنِ اعْتَدَى ( أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة .
( فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الأخرة ، لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة . وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصاً ، قاله عكرمة ، وابن جبير ، والضحاك : وقيل : هو قتله البتة حداً ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو قاله عكرمة أيضاً ، وقتادة ، والسدي .
وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن .
وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله عمر بن عبد العزيز . ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه .
البقرة : ( 179 ) ولكم في القصاص . . . . .
( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يأُولِي أُوْلِى الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الحياة التي في القصاص هي : أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له ، للذي امتنع من قتله ، فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدّم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما . أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل .
وقيل : حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية . وقيل : حياة للقاتل . وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة . فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه .
وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد الله الربعي : ولكم في القصص ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ، وقيل : القصص : القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله : ) رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( وكقوله : ) أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ).
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصاً قتل كما قتل .
وقال الزمخشري : ) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ ( كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة مخز البلاغة بتعريف ، القصاص ، وتنكير : الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل . لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه .
وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفي للقتل ، وقالوا : أكف للقتل .
وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه . أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال . الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة . الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفي للقتل . الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل . وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك .
أما في الوجه الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة .
وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في

الصفحة 18