كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 19 "
كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ ، والحذف إذ أنفي ، أو أكف ، أو أوقى ، هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفي للقتل من ترك القتل .
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة .
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة .
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : ) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ ( وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم الله بالخطاب ، ( يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ ( ) لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ) لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( ) لاَيَاتٍ لاِوْلِى ( ) ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب .
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون الله باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص .
البقرة : ( 180 ) كتب عليكم إذا . . . . .
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( الآية . مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص ، والدية ، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت ، فيموت على غير وصية ، ولا ضرورة تدعو إلى أن : كتب ، أصله : العطف على . ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( ) كُتِبَ عَلَيْكُمْ ( وأن الواو حذفت للطول ، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها ، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت ، ومعنى حضور الموت أي : حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة ، والعرب تطلق على أسباب الموت موتاً على سبيل التجوز . وقال تعالى : ) وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( وقال عنترة . وان الموت طوع يدي إذا ما
وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير . انا الموت الذي حدثت عنه
فليس لهارب مني نجاءُ

الصفحة 19