كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 20 "
وقال غيره . وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
قولا يبرئكم : إني أنا الموت
والخطاب في : عليكم ، للمؤمنين مقيداً بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت ، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان : إذا حضركم الموت ، لكنه روعيت دلالة العموم في : عليكم ، من حيث المعنى ، إذا لمعنى : كتب على كل واحد منكم ، ثم أظهر ذلك المضمر ، إذ كان يكون إذا حضره الموت ، فقيل : إذا حضر أحدكم ، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر : ولست بسائل جارات بيتي
أغياب رجالك أم شهود
فأفرد الضمير في رجالك لأنه راعى معنى العموم ، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي ، فجاء قوله : أغياب رجالك ، على مراعاة هذا المعنى . وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية .
وقيل : المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته ، فيكون الخطاب متوجهاً إلى الأوصياء والورثة ، ويكون على حذف مضاف ، أي : كتب عليكم ، إذا مات أحدكم ، إنفاذ الوصية والعمل بها ، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية ، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر .
( إِن تَرَكَ خَيْرًا ( يعني : مالاً ، في قول الجميع ، وقال مجاهد : الخير في القرآن كله المال ) وَإِنَّهُ لِحُبّ ( ) فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ) فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ( ) إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ( وظاهر الآية يدل على مطلق الخير ، وبه قال : الزهري ، وأبو مجلز ، وغيرهما ، قالوا : تجب فيما قلّ وفيما كثر .
وقال أبان : مائتا درهم فضة . وقال النخعي : من ألف درهم إلى خمسمائة ؛ وقال علي : وقتادة : ألف درهم فصاعداً ، وقال الجصاص : أربعة آلاف درهم . هذا قول من قدّر الخير بالمال .
وأما من قدّره بمطلق الكثرة ، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل ، وكثرة عياله ، وقلتهم .
وروي عن عائشة أنها قالت : ما أرى فضلاً في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصى وله عيال ، وقالت في آخر : له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف ، إنما قال الله ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك .
وعن علي : أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه ، وقال : قال تعالى : ) إِن تَرَكَ خَيْرًا ( والخير : هو المال ، وليس لك مال . انتهى .
ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب ، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير ، وإن كان المراد غير الظاهر ، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير ؛ وفي تسميته هنا وجعله خيراً إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث ، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه ، ويأثم بالوصية فيه .
واختلفوا ، فقال قوم :

الصفحة 20