كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 28 "
و ) مِن مُّوصٍ ( متعلق ، بخاف ، أو بمحذوف تقديره : كائناً من موصٍ ، وتكون حالاً ، إذ لو تأخر لكان صفة ، كقوله : ) جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ( فلما تقدم صار حالاً ، ويكون الخائف في هذين التقديرين ، ليس الموصي ، ويجوز أن يكون : مَنْ ، لتبيين جنس الخائف ، فيكون الخائف بعض الموصين على حد ، مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه ، أي : مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل ، والخائف هنا موصٍ .
والمعنى : فمن خاف من الموصي جنفاً أو إثماً من ورثته ومَن يوصي له ، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح ، وهذا معنى لم يذكره المفسرون ، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف ، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته ، ولا من يوصي له .
وأمال حمزة ) خَافَ ( وقرأ هو والكسائي وأبو بكر : موص ، من ، وصا والباقون : موص ، من : أوصى ، وتقدم أنهما لغتان .
وقرأ الجمهور : جنفاً ، بالجيم والنون ، وقرأ علي : حيفاً ، بالحاء والياء .
وقال أبو العالية : الجنف الجهالة بموضع الوصية ، والإثم : العدول عن موضعها ، وقال عطاء ، وابن زيد : الجنف : الميل ، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض ، وقال السدي : الجنف : الخطأ ، والإثم العمد .
وأما الحيف فمعناه : البخس ، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء : تحيف مال أي : نقصه من حافاته ، وروي : من حاف في وصيته ألقى في ألوى ، وألوى وادٍ في جهنم .
( فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ( : الضمير عائد على الموصي والورثة ، أو على الموصى لهم وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدل على ذلك لفظ : الموصي ، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له ، كما قيل في قوله : ) وَأَدَاء إِلَيْهِ ( أي : إلى العافي ، لدلالة من عفي له ، ومنه ما أنشده الفراء رحمة الله تعالى : وما أدري إذا يمم ت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
فقال : أيهما ، فأعاد الضمير على الخير والشر ، وإن لم يتقدم ذكر الشر ، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر ، والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي ، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من والٍ ، أو ولي ، أو مَن يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله : ) فَمَنْ خَافَ ( إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم ، ولا يوجه لتخصيص الخائف بالوصي ، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان ، أو كف للعدوان ) فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( يعني : في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح ، والضمير : عليه ، عائد على من عاد عليه ضمير : فأصلح ، وضمير : خاف ، وهو : مَنْ ، وهو : الخائف المصلح .
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، لما ذكر المبدل في أول الآية : وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول ، وأنه لا إثم عليه ، لأنه رد الوصية إلى العدد ، ولما كان المصلح ينقص الوصايا ، وذلك يصعب على الموصى له ، أزال الشبهة بقوله : ) فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ( وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي ، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره . انتهى . وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول . وقال أيضاً : إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول ، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل ، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح ، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع . انتهى كلامه .
( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). قيل : غفور لما كان من الخائف ، وقيل : للمصلح رحيم حيث رخص ، وقيل : غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق ، رحيم للمصلح .
وقال الراغب : أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر .
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة ، أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل ، المشرق والمغرب ، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع ، اعتقاداً وفعلاً وقولاً . فمن الإعتقاد : الإيمان بالله ، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه ، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة ، وأنبيائه المتلقين . تلك الكتب من ملائكته . ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب ، من : إيتاء المال ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،

الصفحة 28