كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 4 "
كانت في أهل الكتاب ، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلاً ، وذكر ما أعد لهم ، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلاَّ صلاتهم ، وزعمهم أن ذلك البر ، فردّ عليهم بهذه الآية . وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين ، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى .
وقرأ حمزة ، وحفص ) لَّيْسَ الْبِرَّ ( بنصب الراء ، وقرأ باقي السبعة برفع الراء .
وقال الأعمش في مصحف عبد الله : لا تحسبن البرَّ ، وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله أيضاً : ليس البر بأن تولوا ، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس ، وأن تولوا في موضع الاسم ، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي ، وهذه القراءة من وجه أولى ، وهو أن جعل فيها اسم ليس : أن تولوا ، وجعل الخبر البر ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام ، وقراءة الجمهور أولى ، من وجه ، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل ، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها بما . . أراد الحكم عليها بأنها حرف ، كما لا يجوز توسيط خبر ما ، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبورود ذلك في كلام العرب .
قال الشاعر : سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
وليس سواء عالم وجهول
وقال الآخر . أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّة
وليس علينا في الخطوب معوَّلُ
وقراءة : بأن تولوا ، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها . قال الشاعر : أليسَ عجيباً بأن الفتى
يصابُ ببعض الذي في يديه
أدخل الباء على اسم ليس ، وإنما موضعها الخبر ، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة ، وصار معنى الكلام : أعجب بأن الفتى ، ولو قلت أليس قائماً بزيد لم يجز .
والبرّ اسم جامع للخير ، وتقدم الكلام فيه ، وانتصابُ قبل على الظرف وناصبه تولوا ، والمعنى : أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القِبلة حتى وقع التحويلُ إلى الكعبة .
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله عليهم ، وقيل : ليس البر فيما أنتم عليه ، فإنه منسوخ خارج من البر .
وقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة .
وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى : ) مَكَاناً شَرْقِياً ( واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين .
( وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ( البرُّ : معنىً من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلاَّ مجازاً ، فامّا أن يجعل : البرُّ ، هو نفس من آمن ، على طريق المبالغة ، قاله أبو عبيدة ، والمعنى : ولكنّ البارَّ . وإمّا أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكنّ ذا البر ، قاله الزجاج . أو من الثاني أي : برُّ من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرَّجه سيبويه ، قال في كتابه : وقال جل وعز : ) وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( وإنما هو : ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله . انتهى .
وإنما اختار

الصفحة 4