" صفحة رقم 443 "
وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي .
وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد ابن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة . وكونه من افتعل نادر .
وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛ وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة . وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك . وأما من الأفعال : فكل محرم .
وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ .
وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك .
وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من الله تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات الله . وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم .
وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة .
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال . إنتهى .
قيل : وفي الآية دلالة على أنه لادلالة لكافر على مسلم في شيء ، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره .
قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة .
( وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ( قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى : يوماً بأجود نائلاً منه إذا
نفس الجبان تجهمت سؤَّالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عغطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم الله عقابه . إنتهى كلامه .
ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال : ) وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ( أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد وعيد شديد .
آل عمران : ( 29 ) قل إن تخفوا . . . . .
( قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : ) يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن