كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 455 "
ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه ) السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى .
آل عمران : ( 35 ) إذ قالت امرأة . . . . .
( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ ( الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران ، ذكر ابتداء حال آل عمران ، وامرأة عمران اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي حنة بنت فاقود ، ودير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف بدير حنة ، وقد ذكر أبو نواح دير حنة في شعره فقال : يا دير حنة من ذات الاكيداح
من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة ، جدّة عيسى ، بظاهر دمشق . وقال القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة ، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ : حنة أم عمر ويروي حديها ابن جريج .
ويستفاد حنة مع : حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، و : حية ، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع : خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ، أم محمد بن نصر ، ومع : جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه .
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به الله تعالى ، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب . الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر . وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة . قال الشاعر :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و : لك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك .
( مَا فِي بَطْنِي ( جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً ، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً .
( مُحَرَّرًا ( معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية . قال محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادماً للبيعة . قاله مجاهد ، أو : مخلصاً للعبادة ، قاله الشعبي . ورواه خصيف عن عكرمة ، ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من . ونسب هذا إلى سيبويه .
( فَتَقَبَّلْ مِنّي ( دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، و : تقبل ، هنا بمعنى : قبل ، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعدّاه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل .
( إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله . فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين .
والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : إذكر ، قاله الأخفش ، والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران . قاله الزجاج ، وعلى هذا يجعل ) إِنَّ اللَّهَ ( من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء ، وزمان قول امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه .
وقال الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول امرأة عمران ونيتها ، و : إذ ، منصوب به . انتهى . ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما ان يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : سميع ، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد

الصفحة 455