كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 464 "
) إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع الله لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال : ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء ( فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله : ) وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( ؟ .
قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني : ) إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( إلى آخره . والثالث : ) رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ( فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً . انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله ) رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً ( على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط .
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربياً ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله : ) فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ ( وفي قوله : ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يُحْىِ ( وظاهر قوله في مريم : ) رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه . .
آل عمران : ( 39 ) فنادته الملائكة وهو . . . . .
( فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ ( قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء . ( يا أهل النار خلود بلا موت ) وجاء : ) فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً ( وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم ) إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ ( لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين .
وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل الله دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته . وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك .
والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة .
وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم . وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : وجبريل رئيس الملائكة .
وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل . أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول .
( وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن الله يبشرك . وقيل : المحراب موقف

الصفحة 464