كتاب تفسير البحر المحيط - العلمية (اسم الجزء: 2)

" صفحة رقم 478 "
السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان .
والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف . وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي . وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات .
فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها ) وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ( المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكون في عداد غيرهم .
وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة . وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : ) وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ ( وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ . ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة . انتهى كلامه . ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره .
وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمر وليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ انتهى . وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق .
وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع . انتهى . فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع .
وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه ) وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : ) وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ ( ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم .
و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : إفعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها . وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعمَ إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة .
قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها . انتهى .
آل عمران : ( 44 ) ذلك من أنباء . . . . .
( ذالِكَ مِنْ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا

الصفحة 478