" صفحة رقم 528 "
لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب .
ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ ( أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف .
( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة .
( وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على الله ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة .
( وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله ) وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ( نفي أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها .
قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى الله تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم .
وقال ابن عطية ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله : ) وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ).
) وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً .
آل عمران : ( 79 ) ما كان لبشر . . . . .
( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يَأْتِيهِ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ ( روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، حين اجتمت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) : ( معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت ) ، فنزلت .
وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : ( لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) .
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ ( فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، وذكروا سبب النزول المذكور .
وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى ) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ ( وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : ) مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ).
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكَذَبُة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .
والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : ( إن من الشعر لحكماً ) . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .
أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .
( كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ