" صفحة رقم 76 "
منهم القتال الذي إذا بدؤوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار .
و : حتى ، هنا للغاية ، أو للتعليل ، وإذا فسرت الفتنة بالكفر ، والكفر لا يلزم زواله بالقتال ، فكيف غيي الأمر بالقتال بزواله ؟ .
والجواب : أن ذلك على حكم الغالب ، والواقع ، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال ، ومن عاش خاف من الثبات على كفره ، فأسلم ، أو يكون المعنى : وقاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر ، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه .
( وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ ( الدين هنا : الطاعة ، أي : يكون الانقياد خالصاً لله ، وقيل : الدين هنا السجود والخضوع لله وحده ، فلا يسجد لغيره ، وغيي هنا الأمر بالقتال بشيئين : أحدهما : انتفاء الفتنة ، والثاني : ثبوت الدين لله ، وهو عطف مثبت على منفي ، وهما في معنى واحدة ومتلازمان ، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع ، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيي بأمرين مختلفين : أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى .
قيل وجاء في الأنفال : ) وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ ( ولم يجىء هنا : كله ، لأن آية الأنفال في الكفار عموماً ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه .
قيل : وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في : وقاتلوهم ، عائداً على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلاً عليه بقوله : ) وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( فعارضه بقوله : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( فقال : ألم يقل : ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ( ؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ، إذ كان الإسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله .
( فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ). متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الاسلام ، أو عن القتال . وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو : عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة .
والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلاَّ على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء . سماه عدواناً من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : ) وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ( ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ( ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( وقال الشاعر : جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم
قصاصاً سواء حذوك النعل بالنعل
وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلاَّ على الظالمين إنتهى كلامه . وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، ذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلاً ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلاً لوجود العدوان على غير الظالم . فكأنه يكون إخباراً غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى .
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله .
وقال الأخفش المعنى : فإن انتهى بعضهم