" صفحة رقم 99 "
عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه ) ، وأنه لم يذكر الجدال . انتهى كلامه . وفيه تعقبات .
الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً ، وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .
الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .
الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج .
الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : ) وَلاَ فُسُوقَ ( لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب ، فلذلك رتب ( صلى الله عليه وسلم ) ) غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث ؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره ، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة . فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .
وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً ؟ أو صورتها صورة النفي ؟ والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك فقال في ( المنتخب ) قال ، أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي . أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : ) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلاَّ إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه .
وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله : ) فَلاَ رَفَثَ ( وإلى قهر القوة النفسانية بقوله : ) وَلاَ فُسُوقَ ( وإلى قهر القوة الوهمية بقول : ) وَلاَ جِدَالَ ( فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه . انتهى ما لخصناه من كلامه .
والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال : إنسان مثلاً : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب